كلية منهج الرشاد الإسلامية من عتبة الكوخ إلى بلاط القصر

أنس الريحاني

طالب بكلية منهج الرشاد الإسلامية

في حين من الأحيان، في عقد من العقود، عديد من المتعلّمين المخلصين تدفّقوا إلى مسجد كرونغات كالسيل الجاري من المطر الهاطل، وشرذمة من المدرّسين النحارير أخذوا بزيارة وإمامة إلى هذا المنبر الشامخ، متربّعين في نبراس العلوم، متصفين بصفات العزّ والتكريم، متزيّنين بزينة الحلم والتقديم، ما زالوا عاضّين بالنواجذ لتطوير الأمّة وتشمير الطلبة، وكلما صاروا منتمين في الفضيلة والشرف صاروا آخذين بالعلم والتعليم، وإنّهم سجّلوا نقطة بيضاء في أسفار التاريخ بخطوط نيّرة، وأوقدوا مصباح الانتهاض والمساعدة، وحرّكوا عجلة التطوّر والتنمية، وتعانقوا المساواة والمواساة، فطلع لديهم صباح الخير والبركة وظهرت أمامهم ضياء النعمة والمنّة.

ومن الملحوظ المرموق، أنّ مسجد كرونغات لقد ربّى أجيالا على كافّة الأصعدة والمجالات، لا سيّما في مجالات التربية والتعاون وفي الفنون التعليمية المتنوّعة، وقام البلد فاريل بل تشليمبرا مفتخرا بخدمة المسجد وأصحابه بمحاولتهم المتواصلة المتألقة. وهذه الشهرة والعظمة كلها نيلت باستعدادهم نصّا وروحا ومساهمتهم قلبا وقالبا، فحموا علاقتهم الوطيدة بينهم كالأوطاد الواطدة التي لا تزال، وكالأوتاد الواتدة التي لا تمال، فصوّروا جيلا مثقّفا وأمّة مقتادة بمرور الأيّام وارتحال الأشهر.

تأسيس الكلّيّة بأيادي الوارعين

وكما أنّه ساد وانتشر في كل بقعة وناحية، أنّ الدروس المحلّية المعتادة في المساجد قديما لقد وهنت وضعفت وتعانقت أيادٍ خالية، وكان الطلاب تاركين هذا المنهج ومعرضين عنه، فاحتاج العلماء والعمراء إلى تأسيس كلّيّات وجامعات، فحينىٔذٍ أراد العالم الفاضل الحاجّ عبد القادر مسليار عافاه الله ورعاه أن يحوّل التاريخ ويرسم المستقبل من جديد فاستعدّ نصّا وروحا لبناء كلّيّة تابعة لجامعة دار الهدى الإسلاميّة، وصمّم عزمته وهمّته وتحلّم في صميم قلبه بأنّ كوكبة من علماء عباقر سيتخرّجون من هذا المنبر الشامخ، متسلّحين بجودة العلوم وصفوة الدين، سيغيّرون مجرى التاريخ ويصنعون معالم من جديد.

في ٢٦ ديسمبر ٢٠٠٤ تمثّل حلمه بإرساء حجر الأساس للكلّيّة بيد السيّد الفاضل محمّد علي شهاب، فمن هذه الآونة السعيدة نفحت الأفعاء وفغّت النشوة ونسم النسيم منها إلى كلّ فجّ عميق وإلى كلّ حدب وصوب من نواحي العالم وأرجاىٔه، وتودّأت فسولة المواطنين فجأة، وانغرت كوابج المبرّىٔين سرعة، واستقبل الكلّيّة جيرانها وتلقوها وكرّموها بالدفوف والطبول، لأنّها تمثّلت همّة لفيف من الرجال الخلص الذين تجهّزوا وتحزموا لكسر المستحيل، وحاليا تتلألأ كراماتم وقوّة إراداتهم في مفرق رأس الأيّام وعندما تلتفت نحو الوراء تلوح في جبهتها مآثر التحدّي والعرقلة.

لما انفلج صباح جديد في تاريخ المقاطعة فاريل بافتتاح هذه المنارة العلمية تلبّى الناس لنداء الأستاذ عبد القادر مسليار وأجابوا لدعوته في كلّ حركته وسكنته، وصاروا له ظلّا يسير معه في كلّ وقت وحين، وقاموا له عضدا في كلّ بهجته وشجوته، فما ارتكبوا في أشواك الشياطين والأوغاد، وما وقعوا في أشواط الجبابرة والجرابزة، بل خاضوا إلى مروج الأمن والأمان، وشهدوا لغيبة الدبار والبوار، فصار الجوّ آمنا مطمىٔنا بل أصبح الجوّ مزدوجا بالثورات العلمية والدعوية.

ومن الحقاىٔق الناصعة الثابتة الغضة التي لا تقبل النقاش ولا الجدال، أنّ العالم الفاضل الحاجّ الأستاذ عبد القادر مسليار قام في تأسيس الكلّيّة وبناىٔها بما تولّى أتمّ وخير قيام بعد أن شدّ مىٔزره لأخذ عكازها بحيث أنه كان فريد الزمان وممتاز الأوان، عميق العلم ورصيف العمل، جعل الخدمة الدينية ميدانه، واللسان الطلق سلاحه، والإخلاص مركبه والتقوى ممرّه، وصنع أطوما موصدة وبروجا مشيّدة مركزا للعلوم، وقصّف تجاديف الزمان، وجحدل حفاصة الأساطير إلى شفا جرف هار بل إلى عمق حفرة التهاتف، وشيّد الثقافة الذابلة من البلد، وكان له مظلة يلازمها، ولا يفارقها في أكثر الأحيان، ولا زالت تحميه من وقدة الشمس الهاىٔجة وقسوة البرد والشتاء، وكان أبيض الوجه، ذا لون جميل، حتى مرّ عليه وعلى مظلاته تقلبات الدهر فابيضّت مظلته السوداء، واسودّ بدنه الأبيض، بل شابّت مظلته وشبّت حضرته.

مستجدّات الحرم بتغيّرات العالم

بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كانت الكلّيّة محتاجة إلى دعم الأسخياء ومساعدتهم المتتابعة بحيث نشأت هذه الكلّيّة وسط ضجّات حامت حولها، واستمدّت من عمق المجتمع روحها وأنفاسها، ويفعت بين الأبواق الصداحة باستحالتها وفناىٔها في تلك المستنقعات الحقلية، واقترشت عتامة الناس وسذاجتهم، وفي أواىٔل عصرها كانت الأحوال متحيّرة وخاىٔفة في نشأتها ونجابتها، ومتمرجلة في استمرارها وقيامها وحتى أن البعض تشزّن لاجتياحها ولمشاهدة انهيارها، ولكن عون الله نزل واحدا تلو الآخر، فخُيّب الأعداء وانتهك الألدّاء بكبرياىٔهم وعدوانهم بين رؤوس الخلاىٔق إربا إربا…..

وهنا لقد مضت في مسيرة خدمتها الدينية خمس عشرة سنة متواصلة متألقة بحيث أصبحت الكلّيّة بوصلة تتجه إليها قلوب الأمة وتعانقها أرواح من العلم والتاريخ، والآن أكثر من مىٔتين طالب يتواصلون بالعلم ويكتسبونه على التبرع مع توفير جميع السهوليات المتطلبة في العصر الراهن، كانت المكتبة ضعيفة في نصف غرفة في بدايتها، وكانت الصفوف عراة المرواحات والوسعة، وكان الفناء مملوىٔا بالحصا والعصى، وكانت الأطعمة تذكّرنا القدم والبلوى.

على مرّ العصور وتتابع الأجيال وكرّ الأزمنة، رسمت ‘ المنهج ‘ مكانتها في المجتمع، وهمست سواذق الاستحالات، وكاتلت حنادس الليالي، وسلقت بواريد الأعداء اعتلاء وتطورا، والآن تقف الكلية في بقعة واسعة فسيحة وحتى لا يرى طرفه من مكان النظرة. عشرون من الأساتذة العباقر يخدمون الآن في ساحتها وواحتها المثمرة ، فيها مختبر الحاسوب المعاصر القشب الذي أهداه ضيفها من مالازيا، وفيها غرفة المكتبة الرقمية التي بنيت بحماية لجنة الأساتذة والأبوين ، وفيها صفّ خارجي صنع بأيادي الطلبة ، وفيها غرفة ذكية مبهررة، ومعرض المحاضرة المتلوّن، وبرغم ذلك كلُّ الصفوف ذكية وتقنية بحيث يستقطب الطلاب العلوم بحسب احتياجهم إليها سرعة وفجأة، فيرقّش مستقبلهم إن شاء الله،  ويزيّن كبرهم بيواقيت من  الجواهر الجلية بتوفيق من الله.

فللّه الحمد من قبل ومن بعد الذي رفع شأن هذه الكلّيّة، وجعل منهجه ممنهجا مسلسلا لا يرى فيه خلل ولا خطأ، فمن شأنها الارتفاع بحسب حاجتها ومودتها.

مساهمات الرّحاب في المجال التعليمي

ومن غضون ذلك أنجبت الكلّيّة كثيرا من النحارير المتقنين الواثقين، وربّت بثيرا من الأجيال المفضّلين القاىٔدين، بخدماتها الدينية والتعليمية، والدعوية والاجتماعيّة، فلوّنت البلد بألوانها المختلفة، وزيّنت العالم بزينتها المتنوّعة، فانتشر قلوب الأمة إلى عتبتها برجاء إثمار ثمرات مونعة، وجذبتها نفوسهم بأمانيهم المتعدّدة، فلما وصل الشيخ عبد القادر مسليار الليل بالنهار في تأسيس الكلّيّة مشى في سبيل محفوف بالقتاد والأوسج غير مبال بحمارة القيظ وصبارة البرد ولما بذل مجهوداته المتواصلة أثمر زرعه وأينع رغم الظلم والظلام.

ومن الجدير بالذكر والإشارة، أن أكثر من خمسين عالما لقد تخرّج من ساحتها المفضّلة، علماء موهوبون ، بخبرة السلوك ، بحساسية الأخلاق، بشفافية الآداب، واختاروا مجالات مختلفة، منهم من يخدم في الكلّيّات الإسلامية والمعاهد الدينية، ومنهم من يعلّم المسلمين بالأسماء الذين لم يسجدوا لله ولو مرّة ولم يحسنوا القرآن والشريعة، ومنهم من يأخذ الدراسات العليا من الجامعات الشامخة، ومنهم من يشتغل بوظيفة الرسم الرقمي، ومنهم من يتراّس لمعاهد ومؤسسات، كلهم حازوا هذه الدرجة والمكانة بتشاميرهم المتواصلة ومجهوداتهم المتتابعة، والآن ساىٔر الأبواب لديهم مفتوحة منتظرة.

إنّ جدرانها شاهدة على ترقيتهم وأنشطتهم، وتربتها مستذكرة ذكرياتهم، وساحتها عادّة خطواتهم الفعّالة، وميدانها فرح في تطوّراتهم ، وساىٔر الحجر والحصى يغرّد مداىٔحهم، والصفوف رادّة تعاليمهم، والأشجار منادية أسماءهم، فالكلّيّة الآن مسرورة باحتفالها عيدها السنوي بمضي خمس عشرة سنة في خدماتها الدينية. وفي الحاضر يقوم بقيادتها ورىٔاستها السيد محمد حسن جمل الليل – رعاه الله وعافاه، فازّيّنت الأرض والسماء، واقشعرّت الأشجار والجبال، واخضرّت البلاد والقرى، والطلبة الذين يأخذون العلم ويكتسبونه من ساحتها ممتازون في مختلف الفنون والأفنان، ومتقنون في متعدّد اللغات والمجالات.

واليوم أصبحت جامعة دار الهدى الإسلاميّة مفتخرة وررافعة رأسها بين رؤوس الخلاىٔق بقفزة علمية من جانب تابعتها كلّيّة منهج الرشاد الإسلاميّة، بخدماتها المثيلة اللامثيلة، وخطواتها الفذّة الفريدة بحيث سارت من عتبة الكوخ إلى بلاط القصر، ومن أخمص القدم إلى قمة الرأس في مسيرتها التطوّرية. فالأيادي التي نسجت من خلف تطوّراتها مقبولة مستجابة بتدفّق إيمانهم ورطب ألسنتهم بالقرآن، وكأنّ الكلّيّة ناطحة السحاب من بين المؤسسات والمعاهد، فلا بدّ للقدر أن يستجيب، ولا بدّ لللّيل أن ينجلي، ولا بدّ للقيد أن ينكسر……!