بقلم محمد موسى كمارا
لو كانت الأرزاق على مقادير الاستحقاق لكان مكان محمود محمّد شاكر في جيل أبي عثمان الجاحظ وأضرابه، وإنّي كلّما حَدَتْنِي الرّغبة إلى الكتابة عنه، فأستجمع نفسي للحديث؛ أجدُني، من هيبة الموقف، ملفَّفاً بحيرةٍ زائغةٍ، تتشعّبُ بي أطرافُها حتَّى تقذفني في مثل قطعٍ من اللّيل مظلم، أبحث فيه عن موضعٍ أثبتُ فيه قدمي لبلوغ الغرض ونيل المأرب، وأنا أبرأ إلى الله من التّعصُّب قائلًا: إنَّ العلّامة أبا فهر محمود محمّد شاكر أوعبُ من عرفتُهم أصولاً، وأجداهم محصولاً، ولـمّا قرأتُ جميع كتبه مستفيداً من سعة علمه وغزارته، ومستمتعاً ببلاغة أسلوبه وفصاحته، ظفرتُ بالمنى، وبما فوق المنى.
لـمّا أفضى العلّامة الجليل أبو فهر إلى ربّه الكريم، تاركاً وراءه هذه الحياة الدّنيا، خلف آثاراً من العلم، قد يُقبل عليها من يُقبل محتفلًا، أو يُعرض عنها من يُعرض كارهًا؛ وهو غير واجدٍ فيها إلّا صورة شاعرٍ ماهرٍ أجاد فنَّه، وفارسٍ جسورٍ نافح عن أمَّته بالقلم، ومحقّقٍ بارعٍ خطف التّراث من يد الفناء إلى حومة البقاء، وناقدٍ فريدٍ استولى من صنعته على الأمد، وكاتبٍ أديبٍ حرس العربيّة، وذاد عن حماها، وخبِر تاريخها، ودرس رجالَها، ولم يصدر فيما صنع إلّا عن همٍّ واحدٍ لا يخالطه شيءٌ، هو الهمُّ المسهِّدُ المستبدُّ بأمّته العربيّة والإسلاميّة، فقرأ المكتبة العربيّة كلّها، واستوعب الثّقافة الضّخمة التي أدّاها الأوّلون إلى الآخرين، وأبقاه السّالفون للّاحقين من الأبناء والأحفاد.
والمقبل على قراءة مؤلّفات محمود محمّد شاكر لا يخلو من حالتين اثنتين: إمَّا أن يكون متخصّصاً في الأدب، متّصلاً بالنّقد، وإمّا أن يكون متخصّصًا في غيرهما من فروع العربيّة والشّريعة، وأمر الحالة الثّانية أهون وأسهلُ؛ إذ يكفي صاحبها من كتب الأستاذ أبي فهر أن يقرأ على التّرتيب: (رسالة في الطّريق إلى ثقافتنا)، ثمَّ (أباطيل وأسمار)، ثمَّ كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمّد شاكر) الذي عُني به تلميذه البارُّ النّجيب الأستاذ الدّكتور عادل سليمان جمال. وهذه المقالات، في مجموعها، لا تخلو من آراء أبي فهر المبثوثة في الأدب والنّقد والتّحقيق، ولكنّها تتضمّن قضايا متشعّبةً في الاجتماع، والسّياسية، والدّين، والحضارة، والتّاريخ. وإذا كان القارئ متخصّصاً فيما يتّصل بعلوم القرآن، فليُضف إلى الكتب الثّلاثة المذكورة كتابه الفذّ الجليل: (مداخل إعجاز القرآن)، ثمّ له أن يتوقّف إن شاء.
أمَّا المتخصّص في الأدب والنّقد، فأستحسنُ أن يقرأ كلَّ ما كتبه أبو فهر محمود محمّد شاكر، ويطالع كلَّ ما حقّقه، ويتلو جميع تقديماته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ فإنَّ له آراء نفيسةً نادرةً م تَحْوِهَا كتبه المشهورة المتداولة بين النّاس، ولا يكتشفها القارئ إلّا في طوايا تحقيقاته العظيمة.
إنَّ سبيل المهتمّ بالأدب والنّقد إلى الاطّلاع الدّقيق على مؤلّفات أبي فهر؛ هي أن ينطلق من (رسالة في الطّريق إلى ثقافتنا)، ثمّ (أباطيل وأسمار)، ثمَّ (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمّد شاكر)؛ وسبب تقديمي لهذه الثّلاثة، وبهذا التّرتيب المستوي في نظري؛ هو أنْ يألف أسلوب الأستاذ أبي فهر، ويعرف طريقته في الكلام، ويدرك مواقفه المختلفة من أكثر من قضيّة، وفي أكثر من مجالٍ، ثمّ يقرأ كتابه الإمام (المتنبّي)، ثمَّ (قضيّة الشّعر الجاهليّ في كتاب ابن سلّام)، ثمّ (برنامج طبقات فحول الشّعراء)، ثمَّ (نمط صعب ونمط مخيف)؛ وعلَّة تفضيلي لهذا التّرتيب، هي أنَّ المتخّصص بعد إِلْفِه واعتيادِه أسلوبَ الأستاذ ومنهجَه، سيطّلع على أوّل عملٍ متكاملٍ له في النّقد، وهو كتاب (المتنبّي)، ثمَّ يُثنّيه بكتابيْه الدّائريْن حول كتاب طبقات فحول الشّعراء ابن سلّام الجمحيّ؛ لأنّهما أخفُّ على الفهم، وأسهل في التّناول، وهما للقارئ بمنزلة محطّة استجمامٍ وارتياحٍ، ثمَّ يستجمع قواه لقراءة كتابه العسير الهضم، الذي حوى من نظراته النّقديّة ما حوى، وهو (نمط صعب ونمط مخيف)، وله أن يقرأ (مداخل إعجاز القرآن) متى شاء، ولكن لا بدّ له من قراءة هذا الكتاب؛ لأنَّ الشّعر الجاهليّ وإعجاز القرآن يمثّلان قضيّة واحدةً أرّقت أبا فهر منذ أقبل على العربيّة، واشتغل بعلومها حتّى وفاته الكريمة.
أمَّا شعرُه الجيّد الرّائع فيمثّله ديوانُ (اعصفي يا رياح)، ثمَّ ديوان (الحجازيّات)، ثمَّ (القوس العذراء). والقوس العذراء قصيدةٌ مطوَّلةٌ (ملحمة) استنطق فيها أبو فهر قصيدةَ الشّمّاخ بن ضرارٍ الذّبيانيّ، واعتنى بها في حياته، فقدّم لها بكلامٍ رائقٍ لا يُملَّ، وقد وقف عليها النّقّاد أقلامهم وأفهامهم، كلٌّ حسب ما رأى وعلم؛ والرّأي عندي في الطّريقة الهادية إلى كشف مكنون شعره المتفرّق في ثلاثة مواضع مختلفة أن يقرأ الباحث ديوان (اعصفي يا رياح)، مع مقدّمته النّقديّة الجليلة التي جادت بها قريحةُ الأستاذ الدّكتور عادل سليمان جمال، ثمّ يطالع (القوس العذراء)، وإذا قدر على أن يضيف إلى قراءته لهذه القصيدة دراسة هؤلاء النُّقاد الثّلاثة لها، وهم: إحسان عبّاس، ومحمّد مصطفى هدّارة، ومحمّد أبو موسى، فقد أحسن وأجاد؛ وتوجد دراسة النّاقدين الأوّلين في كتاب (دراسات عربيّة وإسلاميّة مهداة إلى أديب العربيّة الكبير أبي فهر محمود محمّد شاكر)، ودراسة محمّد أبو موسى متوفّرة في كتابٍ مستقلّ بعنوان: (القوس العذراء وقراءة التّراث)، وقد نُشر أوّل ما نُشر عام 1983م.
ثمَّ للقارئ بعدئذٍ أن يقرأ ديوانه المسمّى (الحجازيّات)، والذي حقّقه الأستاذ الدّكتور عبد الله بن عبد الرّحيم عسيلان، وليُضِفْ إلى قراءته له النّقدَ الجيّدَ الذي وجَّههُ عبد الحميد محمّد العمريّ إلى تحقيق هذا الدّيوان، وقد نشره في مجلّة الرّبيئة عام 2017م، بعنوان: (نقد تحقيق الحجازيّات). وينبغي أن نعلم أنَّ معرفة تراث الأستاذ محمود محمّد شاكر معرفةً ثابتةً متغلغلة في حقائقه ودقائقه وتفاصيله، لا تتمُّ بقراءة مؤلّفاته فحسب، وإن كانت هي المعالم والصّوى للتّهدّي إليه، ولكن لا معدى للباحث والمطالع عن قراءة تحقيقاته، وقراءة الدّراسات الدّائرة حول أعماله، ولن أذكر تحقيقاته في هذا المقام؛ لأنّها معروفة في مظانّها، ولكن سأذكر تلك الدّراسات المتعلّقة بأدبه ونقده، وهي كثيرةٌ متضافرةٌ، وإن كانت جهوده الأدبيّة والنّقديّة ما زالت تحتاج إلى مزيدٍ من الدّراسة والبحث.
فمن أهمّ تلك الدّراسات ما يأتي
1. دراساتٌ عربيّةٌ وإسلاميّةٌ مهداةٌ إلى أديب العربيّة الكبير أبي فهر محمود محمّد شاكر، وهو كتابٌ اشترك في تأليفه عدد من طلّابه وأصدقائه وهو على قيد الحياة، وكان ذلك سنة 1397هـ/1979م.
2. شيخ العربيّة وحامل لوائها: أبو فهر محمود محمّد شاكر بين الدّرس الأدبيّ والتّحقيق لمحمود إبراهيم الرّضوانيّ.
3. محمود محمّد شاكر: الرّجل والمنهج لعمر حسن القيّام.
4. محمود محمّد شاكر: سيرته الأدبيّة ومنهجة النّقديّ لإبراهيم الكوفحيّ.
5. محمود محمّد شاكر ومنهج التّذوّق في نقد التّراث الأدبيّ: التّأصيل والممارسة لباسم بلام.
6. إشكاليّة الذّوق الفنّيّ عند محمود شاكر لخليفة بن عربيّ.
7. المدخل إلى منهج التّذوّق عند محمود محمّد شاكر لعبد الحميد محمّد العمريّ.
8. آراء محمود شاكر وجهود اللّغويّة لمحاسن أحمد قربان.
9. محمود محمّد شاعرًا لأماني حاتم بسيسو.
10. الصّورة الفنّيّة في شعر محمود محمّد شاكر لعبد الله بن خميس بن سنكر.
أكتفي بهذه العشرة الكاملة؛ مخافة الإطالة، وحذرَ الإسهاب، ولكن حريٌّ بي أن أزيد عليها كتابين لا مهرب من ذكرهما، ولا مناص من الإشادة بهما، وهما لم يجريا على نهج البحث العلميّ الذي سلكتْهُ الدّراسات السّابقة، ولكنّهما مهمّان جدًّا لمن أراد الوقوف على جوانبَ خفيّةٍ من حياة الأستاذ محمود محمّد شاكر، وهما: (قصّة قلم) لعايدة الشّريف التي كانت عضوًا دائمًا في ندوة الأستاذ محمود محمّد شاكر منذ عادت مع أسرته الشّاكريّة من الحجّ عام 1972م؛ و(ظلّ النّديم) لوجدان العليّ، وفيه أوراقٌ وأسمار لمحمود محمّد شاكر لم تكن منشورةً قبل تأليفه.
هذا هو المنهج الصّحيح المناسب لقراءةٍ منتجةٍ لفهم مؤلّفات أبي فهر فهمًا صحيحًا متناغمًا، وهو منّي مبنيٌّ على التّجربة، وقائمٌ على المشافهة، ومنبثقٌ من الدّلالة التي تأكّدت من نفعها وصحّتها؛ وتبقى كلمةٌ لا بدَّ من ذكرها خاتمةً لهذا الكلام، وهي أنّني لم أرد بالعدد المذكور إحصاء كلّ الدّراسات التي تناولت جهود محمود محمّد شاكر؛ فهناك دراسات أغلفتها لعدم اتّساع المقام لذكرها، كما أنّ ثمّة دراسات بلغتني عناوينها ولم أقف عليها لمانع من الموانع؛ ويجب أن نعلم أيضًا أنَّ التّرتيب بين الكتب في القراءة أمرٌ نسبيٌّ غالباً، ولكنَّه مفتاحٌ مرنٌ لفتح مغاليقها إن كان مصنوعاً من التّجربة والمراس، وهذا ما فعلتُ؛ فقد قرأتُ جميع مؤلَّفات الأستاذ أبي فهر أكثر من مرّةٍ، وطالعتُ كثيرًا من تحقيقاته، كما قرأت أغلب الرّسائل والدّراسات التي اعتنتْ بتراثه، والله المستعان على طلب العلم والفهم.