هل نحن بحاجة لصلاح الدين أم بحاجة لتجاوزه؟

بقلم صبغة الله الهدوي

(فسليمان العصر الحالي مشغول في ملء السلة، وحديث عن حرب كبرى أو صفقة قرن مختلة) في ظل الذكرى السبعين من ضياع القدس والمسجد الأقصى، وفي جو المؤامرات الطويلة التي حيكت حولها على مدى السنين، وتحت وطأة من الاحتلال الثقافي والاستعماري، وعلى خلفية حروب متوالية وهجمات شرسة على العالم الإسلامي، وعلى أصداء (صفقة القرن) الصارخة، نستشرف على مستقبل باسم يسمح لنا بالسلام وبالسكون.  كما نستحضر في أذهاننا هالة بطل شمر عن ساقه لتحرير القدس وعزتها، ونجتر تلك المحطات والانتصارات الساحقة أبت أن تمحى من خلد الزمان، ونستمد منه شعاع الأمل.

إنه البطل صلاح الدين الأيوبي. الذي فتح القلوب والأرواح قبل المدن والأمصار، والذي ملأ الأرض بعدله وجوده، وسطر إحدى ملامح التاريخ حتى أقبل أعداءه يتهاطلون عليه بالثناء والإطراء رغم الحقد الذي يلوك ألسنتهم، فجعلهم يتذكرون كابوس الحطين ومحاصرة عكا، ويرون أن لمحة فتح على العالم الإسلامي تعد ثأراً على تلك المعركة الفاصلة كما هي تبدو من توجسات القائد الفرنسي (غورو) بعد أن ركل قبر صلاح الدين الأيوبي وهو يصيح (استيقظ يا صلاح الدين، فقد عدنا، فإن تواجدي هنا دليل على انتصار الصليب على الهلال) وكما صرح الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش إثر تدخلات الأمريكان في العراق والأفغان باسم إطاحة المنظمات الإرهابية والفصائل المسلحة جراء هجمات 11 سبتمبر حيث قال (هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب ستأخذ بعض الوقت).

لكن ما هي المبادئ الأصلية التي خلدت ذكراه عالية صامدة، وما هي تلك المقومات التي التزمها البطل رغم وابل من التحديات التي وجهها الصليبيون برعاية من بابا فاتيكان. فتلك الروح التي نحفظها بين جوانحنا ونصنع منها حماسة وغيرة لم تك إلا وليدة تغيرات مصيرية تجسدت في تلك الظروف، تزامنت مع الجهود الجبارة التي قام بها العلماء والمصلحون أمثال الشيخ أبي حامد الغزالي والشيخ عبد القادر الجيلاني، وعدي بن مسافر، ورسلان الجعبري، وعثمان بن مرزوق القرشي، للتصدي كل الفتن والفساد. فقد كان صلاح الدين قائداً مناسباً لأمة مناسبة، تَحن إلى تراثها وتعتز بدينها، كانت على استعداد تام لمواجهة الفتن ومساندة الولاة على القضاء عليها كما تجلت من محاولات المدرسة النظامية وأبناءها من أمثال إمام الحرمين والشيخ أبي حامد الغزالي والكيا الهراسي، الذين تحدوا الفرق الباطنية وأزاحوا دعاياتهم المضللة.

أيظن بعض الناس أنه لو عاد فينا صلاح الدين سيحمل سيفه ويمتطي جواده ثم ينادي على المسلمين بحي على الجهاد حتى يتم الفتح على الأقصى وتعود القدس؟ أما علم بأنه لم يكن يقظاً في أمة نائمة ولم يكن أسداً يقود جيشاً من الأرانب بل كان أسداً بين الأسود يزأر لو ديس عرينه أو وسم عرينه. تأتي أهمية تعريف كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) الذي يناقش السطح الفكري الذي مهد لاحتلال بلاد المسلمين من قبل الصليبيين في وقت تشن فيه الغارات الشرسة وتتطاول الأعناق على عزة الأقصى وقدسه. لأن هذا الكتاب الذي ألفه د: ماجد عرسان الكيلاني هو دعوة إلى مراجعة تاريخنا وقصص أسلافنا وتوصية للاستلهام من نماذجها الناجحة التي تتجسد فيها معنيات الفتح الرباني والنصر المبين. ليس هو مجرد سرد يذهب بك إلى عالم الخيالات المصنوعة التي تريد أن ينقض جدارها، ولا هو حصالة تواريخ تنبأك حكايات ومنقولات تعبث بعواطفك. بل هو استجابة لنداءات الزمان الذي ظل المسلمون يرفعونها، ويدعون لها ويتضرعون لها، وتجد لك فيها تطبيقات معاصرة تروق لعلاج أمراضنا، لأن المشاكل والقلاقل التي تؤرق الأمة هي نفس القلاقل التي اصطادت الضمير الإسلامي قبيل التدخلات الصليبية في بلدان المسلمين.

ومهما وُجدت الأمة الإسلامية ترثي حالها وتشكو هول أزمتها، حتى إنه لا تنحل عقدة إلا اشتدت عقدة وأخرى، هي نفس الأمة التي واجهت جيوش التتار الجرافة..

يمتاز هذا الكتاب التاريخي التحليلي من بين الكتب المعروفة التي ناقشت تخلف الأمة وانحطاطها وأسبابها، ككتاب أبي الحسن الندوي (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) وكتاب أمير البيان شكيب أرسلان (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) وكتاب الشيخ محمد الغزالي (سر تأخر العرب والمسلمين) وغيرها. كأن هذا الكتاب هو نهاية هذه السلسلة، حتى نندهش من سطور المؤلف حيث يعبر قائلاً: “أن الإعلام الصهيوني تناول صفحاته لمدة أسبوع كامل، بل أعرب عن قلقه ورعبه الهائل عن البعث الإسلامي والانتفاضة الروحية التي تكاد تنبعث من ركام الأمة”. فإن الحقائق التي أوردها الكيلاني عبر سطوره النارية لا تزيد على الاستراتيجية التي نفذها سلفناً الصالحون في طريق النجاح، ألا هي طريق الإصلاح والتجديد، والتمسك بالهوية والتجنب عن الشيم الدخيلة، والمبادرة السريعة إلى تطبيق الإصلاح ولا نتواكل ولا نعتمد على حد السلاح “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ” على خلفية الربيع العربي الذي فجر أنهاراً من الدماء وقدم شهداءً وأبطالاً، وفتح بوابات للاحتلال بحق الشعب العربي، نتبلبل في تلك الاصطلاحات الغرارة التي برر بها (صناع الرأي) و(قوات السلام) هذه الثورات الدموية الخريفة، مهما قيل في هدفها النبيل وغايتها السامقة – على حد تعبيرهم – لم تك إلا جرحاً على ميت وحكاً على متورم. وما كانت إلا تلاعباً بمشاعر الشعب المظلوم، المدعوم من علماء الفنادق الذين يصدرون فتاوى الجهاد يمنة وشمالاً، ويستخدمون القنوات والصلوات لتطبيق فريضة (الجهاد). لكن ما هو الإصلاح الحقيقي الذي تحتاج إليه الأمة، تكفير أم تفكير، تدمير أم ترميم، إصلاح أم إسقاط. فالأمة الإسلامية التي انحدرت إلى حضيض التردي والانحطاط، لا تحتاج إلى اصطلاحات جوفاء، لا تريد إلا الوسوسة والتلبيس ولا إلى عبارات مستحدثة مستعارة. فإن الإصلاح الحقيقي هو أن تعود إلى جذورك وتصل حلقاتك المبتورة من تراثك الغالي، وأن تفهم خدعة الدخلاء وتتدارك هويتك المفقودة على حين غفلة من أهلها.

ومهما وجدت الأمة الإسلامية ترثي حالها وتشكو لهول أزمتها حتى إنه لا تنحل عقدة إلا اشتدت عقدة وأخرى، هي نفس الأمة التي واجهت جيوش التتار الجرافة، وحققت نصراً وفتحاً مبيناً. وهي نفس الأمة التي لم تضطرب ولم تسقط دون التيارات الاعتزالية العقلانية التي كادت تكتسح مصير الأمة وتغير مسارها الحقيقي. وهي نفس الأمة التي زحفت إلى ساحات الجهاد بغض الطرف عن أهلها ومالها وكسرت ناقوس الصليبيين في شتى الميادين، مع أنها كانت تتناحر وتتطاحن قبيل الحملات الصليبية على أسس مختلفة، من جانب تتربصها الفرق الباطنية والفلاسفة المنحرفة وتوهنها التعصبيات المذهبية المتآكلة. وتأكل لحمها صراعات دامية بلا معنى، حتى برز فيها علماء وفقهاء أدركوا غور المشكلة وفهموا فقه الواقع وعلاج الداء إلى أن تولوا زمام الأمور فقضوا على تلك القشور وقوضوا كل خيام الانحرافات، ثم أسسوا على أنقاضها جيلاً صحيحاً صاحياً، يشم ريح الجنة أنى حل وارتحل. إذاً لابد من وقفة طويلة جادة على أطلال تلك الآيات الباهرة، ونظرة مستقلة على ربا تلك التغييرات الفيصلية والانفجارات المصيرية، والاستفادة من خبرات أسلافنا المرتشفين من رحيق الجنة، فإن الأمة التي لا تقرأ ماضيها ولا تحب أسلافها ثم تسعى في طمس آثارها لحقيق أن ترمى في مكبات النفايات.

ونرى المؤلف يقول (إن صحة المجتمع تنبني على صحة الأفكار) فإذا كان الولاء للأفكار بينما دارت الأشخاص والأشياء في فلكها ارتفع شأن المجتمع وارتقى، لأن للأفكار حياة تصمد القرون وتأبى الانحناء دون الحواجب الطيارة ولا تستسلم لتقلبات الزمان. بل في هذه الحالة يتسلم مركز القيادة الأذكياء الذين يحسنون فقه التحديات واتخاذ القرارات. كما كان الرسول يسعى لتحقيق معنى الإيمان والإحسان، ويجد نفسه أيضاً خاضعاً لتلك المعاني الفائقة، ويحفز أتباعه للتفان في سبيل الجهاد، حتى تعلو كلمة الله وينزهق الباطل. ولم ينخدع أمام وابل من المغريات التي مدها قريش من نساء جميلات وثروات فاحشة وملك لا يزول، بل استصغر نفسه كما قال الله  إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ “ وضحى بها قائلا “والله لو وضعوا شمسا بيميني أو قمرا بشمالي ما تركت هذا الأمر”. هذه الصرخة الكبرى هي ذات الأفكار التي تشع حضارة وتربي شعباً، وهي التي عمرت القلوب بالإيمان وأذكت مواقد الإحسان، وصنعت جيلاً متنور الذهن والروح، متقلباً نحو السماء لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. فلو كان الولاء للأشخاص واحتلت المثل الأعلى والقدوة الأولى في المجتمع لهلك المجتمع بهلاكها ودفن بدفنها، وتخبط كقطيع بلا راع، وكذلك الحال إذا صار الولاء للأشياء والمواد، فلا يترك سوى ترف وترفيه في العيش، ولا يصنع سوى جيل تائه في سفاسف الأمور، ولا يكون سوى بقية من الجاهلية الأولى التي سلت السيوف لمجرد الشهوات