الامبراطور أورنكزيب.. سادس الخلفاء الراشدين!

بقلم صبغة الله الهدوي

أن تخوض في غمار تاريخ الهند معناه المغاورة والمخاطرة بجميع حسيات علومك ومواجهة تيارات التزوير والتحريف، والفتح أمامك سجلا من الغموض والخفاء المروع، تناقضات إثر تناقضات، وأساطير تتذيل للحقائق الناصعة، ومقولات تنحدر من رؤوس المناصب والمعالي، وتعليقات غامضة ملطخة بدماء نازفة من ذوي الأقلام المرتزقة العميلة للعصابات المختلفة، العابثة بالتاريخ العائثة في حلبتها الأصيلة.

كان السلطان أورنكزيب محط أنظار التاريخ الهندي العميق، السلطان المظلوم المفترى عليه، يحكم عليه من قرأ من حياته سطرا ورأى من مملكته شبرا، سلطان أسس أكبر مملكة مغولية في شبه القارة الهندية، رجل كان ميالا إلى الوجهة الإسلامية بل طبقها فعلا لحد أن طرد القينات والمغنين وحظر حفلات الموسيقى وجوقته التي كانت تعزف في القصور أوتار المتعة والشهوة، وسعى بعدة محاولات ناجحة في تطبيق الشريعة وكسر شوكة الخلاف المتمرد عليه، وأعاد للمملكة المغولية هيبتها، وأخفق في كل الحارات والأحوية رايتها، لكنه لم يتبرأ من الأقلام الأمارة بالتزييف ليقف في قفص الاتهام، وأشيرت إليه أكف وأصابع الانتقادات والعتابات وتم توسيمه بحامل لواء الطائفية ومجهض مبادئ المساواة والعلمانية بينما وصفه المسلمون بسادس الخلفاء الراشدين، والإمبراطور الصالح العالم الزاهد، ولم تزل هناك حجب بين الحق المفلج والباطل الطاغي، فإن الرحلة إلى ذلك الإمبراطور ممتلأ بالأشواك والأسياج، لا تهدمها إلا الحقائق البيض المفارق التي تخرق ستار الكذب والأوهام.

كان يخط بيديه المصاحف ويكسب منها، وهذا العمل باليد لم يك هواية تقضي بها شهوة نفسه بل كانت استعاضة عن عدم استطاعته لأداء الحج حتى أرسل المصاحف التي خطها بيده إلى مكة والمدينة

تعد ترجمة الإمبراطور أورنكزيب رائعة جدا، فهو نجل البطل والإمبراطور المغولي الملك شاهجهان باني تاج محل أعجوبة الدنيا، ملك العمارات الشاهقة وحاضن البساتين ورب الجمال والغرام، وقد عنى والده بابنه أشد عناية، لا سيما في تربيته وتعليمه بأساتذة كبار، حتى درج أورنكزيب على وعي كامل في العلوم الإسلامية لا سيما في الفقه الحنفي، وهذه العناية قد لعبت دورا فاعلا في توجيه فكرته ورؤيته نحو نشر الإسلام والقيام بالدعوة، ولم تقف الدراسة على الدينيات فقط بل توسع نطاقها نحو اللغات مثل التركية والفارسية، والشغتاي، والعربية، وأحسن البطل أورنكزيب هذه العلوم واللغات مما جعلته نادرة الملوك، وكان على عكس جد الملك العظيم أكبر الذي رسم دينا جديدا لتعود مملكته إلى الطمأنينة والسكون.

يقول الأديب والمفكر الإسلامي علي الطنطاوي عن الإمبراطور أورنكزيب “إنه بقية الخلفاء الراشدين أو سادس الخلفاء الراشدين”، وهذه الصفة لم تلتصق به كصفة الملوك الذين ذيلوا لأسمائهم أوصاف المجد والفخر، لكن كانت هذه الصفة نتيجة خدماته ومواقفه الجريئة التي أبداها في دولة كانت الوثنية علمها الأكبر والخرافات سفرها الموقر، إذ كمم الأفواه المتملقة والخطباء المداحين، وحظر عادة تقبيل الأرض والانحناء بين يديه، ولم يرض ليكون طاغوتا تولده العادات والطقوس، بل اقتنع وارتضى بتحية الإسلام، ومن شرفه الكبير أنه حفظ القرآن بعد أن أصبح سلطانا وواليا، وأظهر للمسلمين مكانة القرآن السامقة في حياتهم.

لقد كان يخط بيديه المصاحف ويكسب منها، وهذا العمل باليد لم يك هواية تقضي بها شهوة نفسه بل كانت استعاضة عن عدم استطاعته لأداء الحج حتى أرسل المصاحف التي خطها بيده إلى مكة والمدينة، وهناك طريفة حدثت في حياته، إنه رأى ذات مرة المغنين والقينات والراقصين يشيعون جنازة، لاطمين على صدورهم، شاقين جيوبهم، مظهرين أشد الحزن والعزاء على المرحوم، فسألهم من هذا المحمول على النعش، فقالوا له، إنه الموسيقا وآلاته، نقوم بتشييعها ودفنها فقال لهم “أيوا فأحسنوا دفنها حتى لا تبعث من الأرض للمرة الثانية”، فإن هذا كان موقف الإمبراطور أورنكزيب من الموسيقى والأغاني التي كانت تملأ جدران قصره ليل نهار، فمن هذه النقطة تولدت اتجاهات عدة تهجم عليه، ما بينها من يصفه دكتاتور ظالم، وملك متطرف طائفي، وإسلامي سعى في تخريب بنية الهند العريقة.

لكن البحث عن الحقائق تهدم وتدحض هذه الخرافات المبنية على أسس هاوية، بل إنما قصد بها الإمبراطور إقصاء الترف والترفيه والإسراف الذي زلزل ميزانية مملكته، وأدى إلى زحزحة نيته ومهمته، إذ كان المغنون يحصلون على جوائز مالية هائلة بينما كان الفقراء مطرودين من هذه النعمة الملكية، وهذه الظاهرة، يعني ظاهرة الترنم لأجل المصالح قد عمت جميع أرجاء بلاده وفشت مثل الجراثيم المعدية، ثم كانت النقطة الأخرى عداوته مع السيخيين، الذين سعوا تحت إشراف زعيمهم لقلب الدولة والسيطرة عليها، حتى دفعت هذه الحادثة إلى قتل زعيمهم شنقا، وإن أثر هذا الإعدام تأثير ألم ودم بين السيخيين لكن ساعده في ترسيخ قدمه وتوسيع نطاق رقعة دولته.

رغم وابل الاتهامات ونفايات الشتم لقد كان أورنكزيب قيامة طامة على الذين تربصوا بدولته السوء والتشتيت، فمذ عرفت بريطانيا بأن دولة كالهند الحبلى بالثقافات والحضارات لا تعود إلى أحضانها إلا بإجهاض كل حركة تتبنى فكرة الجمع والوحدة، وإلا بتبديد كل مباني التسامح ومعانيه، ولأجل هذا المقصد السخيف صمموا فكرة خطرة أصابت صميم قلب الهند هي تفريق الهند إلى عهدين، عهد الإسلاميين وعهد الهندوسيين، فعهد الإسلاميين يعبر عن القرون التي ملكها جميع من سلاطين المغول والخلجيين والغوريين والغزنويين بينما يعبر العهد الهندوسي لأيام الملك المراتي الشهير شواجي ولأيام مملكة راجا فوت، وكان لهذا التقسيم الماكر أثر بالغ في تعميق الخنادق بين الفرقتين العظيمتين، وقد نجحت خطة بريطانيا في تقسيم قلب الهند فكرة وحضارة ليتسهل لهم الأمر في احتلالها أرضا، وخلال هذه التزويرات المروعة كان همهم الأكبر والأول تشويه صورة أورنكزيب وتمجيد جده الملك الأكبر الذي رفض مبادئ الدين وصنع لنفسه عقديدة جديدة على وجه يريد به إساءة الإسلام ورفع راية العلمانية، ومما يثير الدهشة والانبهار فإن تعداد الموظفين الهندوسيين في قصره كانوا أكثر من أيام جده الملك الأكبر، في الجقيقة كان للديانات الأخرى مكانة عالية في إدارية مملكته الواسعة، وكفى هذا الإقبال الكبير من قبل أصحاب الديانات الأخرى حجة لتضرب ناصية الوشاة وأتباع الهوى.

لم يك قتل مخالفيه الهندوسيين والسيخيين نتيجة تعصبه أو حميته بل كانت لظروف سياسية كما هدم المعابد الهندوسية

ومن إنجازات الملك أورنكزيب إشرافه على جمع الفتاوى الفقهية على مذهب الأحناف المعروفة بالفتاوى العالمكيرية أو الفتاوى الهندية، وتم جمعها برئاسة الشيخ نظام الدين البرنهابوري، رتبوها على ترتيب كتاب الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني، ومن أخطر ما وجهت إليه شعارات الطائفية والتطرف الإسلامي إذ ألصقوه وصمة مدمر الهياكل وقاهر المخالفين دينا وسياسة، فلا بد لتمزيق هذه الستائر المنسدلة أمام باب الحق المشيد، وأما موقفه من الهندوس لم يبعث من العنف والقهر بل كانت السياسة السبب الرئيسي لكل حملة قام بها على الهندوسيين، منها ما قام بها على تحركات شيواجي ومؤمرات وخططه المتذامرة، ومنها ما ضرب زعامة الأسرة الملكية راجا بوت التي كانت تتمتع بالشرف والمكانة السامية بين طبقات الهنادكة، وكما يقول المؤرخ الهندي رام بورياني ” أورنكزيب لم يك أبدا في فترة سياسته متطرفا طائفيا، إنما كانت فعاله نتاج البيئة التي يعيشه،”.

وإن كان قد منع بناء هياكل من جديد، فقد سمح للهندوس ترميم الهياكل المتواجدة في وقته، وإن هدم بعض الهياكل لأمور سياسية محضة تولى هو نفسه أمر بناء عدة هياكل، وهذه الدلائل تشير إلى أن البواعث الحقيقية كانت هي السياسة والاقتصادية لا غير لكن تستغل بعض الأقلام غير المنصفة هذه الحملات السياسية لتمثيل صورة الملك وتنكيله، كما رصدها بعض المحللون المقصرون في حقه بأن أورنكزيب كانت مهمته تحويل الهند التي هي دار الحرب إلى دار الإسلام، ويستشهدون من بعض تعاملاته السياسية من فرض الجزية على غير المسلمين وهدم معابد الوثنية، وحظر الطقوس الهندية العريقة، وتغيير أسماء المناطق وتجديدها بنكهة دينية كما غير اسم مدينة مادوراي إلى إسلام آباد، وانطلاقا من هذه الحملات الشرسة والاتهامات المبرحة هل يمكن أن نثبت ونقعد بأنه كان دكتاتورا ظالما لم ينصف بغير المسلمين لا سيما بالهنادكة والسيخيين.

وانطلاقا من هذه التهم العاتية نلجأ إلى بعض المؤرخين الذين أدركوا حقيقة الأمور بعيدا عن الرياح العصبية، وبعيدا عن السياسات ذات العين الواحدة ومن قولهم عنه أورنكزيب لم يكن رجلا طائفيا كما صوره بعض المؤرخين، لكن كان رجلا متدينا تمسك بأوامر دينه، ولم يك قتل مخالفيه الهندوسيين والسيخيين نتيجة تعصبه أو حميته بل كانت لظروف سياسية كما هدم المعابد الهندوسية ذات القناطير المقنطرة من الذهب والفضة لظروف اقتصادية، بل هو الذي قتل وقضى على إخوته وحبس والده، وكل هذه الأمور تشير إلى أنها كانت نتاج السياسة المتأزمة، ولم يك باعثه الأصلي الدين أو العقيدة، على أي حال فإن قراءة ترجمته في زمن الطواغيت والعروش القائمة على سياط التهديد والنار لشيء ممتع جدا.