بقلم صالح عوض
على المستوى الاستراتيجي إلى أين وصلت المسيرة الإسلامية؟ هل ما نعيشه قدر مقدور علينا أم هل بإمكان الأمة إستئناف الرحلة؟ لم يستطع أي من أجزاء الأمة أن يحقق استقلالا ونهضة منفردا وهذا أحد شروط معرفة أي شاطئ رست إليه مراكبنا وأي ثقوب لحقت بها؟ وما ينبغي فعله؟.. سؤال متشعب ومختلف عليه، في ظل إدراكنا كم هو العالم مشغول بالإسلام كمحرك متفرد لمئات ملايين البشر في أخطر المواقع الجغرافية ونعرف حجم استهدافه الذي لا يدانيه استهداف. في جوهر الصراع الكوني وتدافع المصالح الكبرى يرى المستعمرون الإسلام هو المعطل لبرامجهم هكذا كان موقف المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي فلقد عادوه مغرقين في مستنقع حقدهم، يأكلهم غيظهم كما تأكل النار ذاتها، وهو لم يكن إلا رحمة لهم ولغيرهم. منذ انبعث من جزيرة العرب وحتى اللحظة، كان هو العنوان الأكثر إثارة بين البشر.. رفض التقسيمات الجاهلية فلا تفاضل إلا بفعل الخيرات والتقوى، وجعل له ميزانا لا يحيد عنه: العدل والرحمة والسوية بين البشر أجمعين.. يقتربون منه فيدركون أنه يسري في عروقهم وأنه الأقرب لأرواحهم يحرك طاقاتهم ويدفعهم إلى الواجهة والأجمل.. ويحاربونه ويكيدون له فتعييهم الحيلة ويفشلون في الجولة تلو الأخرى فيرتكسون إلى المهانة.. و مع استمرار معاركه وتواصل نزفه تتغير بعض معالمه وقد أثخنته الجراح، فيظن به الأعداء خورا وانهيارا، وعلى غير ذات توقع ينتفض محركا لنهضات المسلمين والعرب وثوراتهم، ورغم كل السدود التي أقاموها أمامه من تشويه وتشويش وشيطنة إلا أنه ينساح في ديارهم ليصبح الأكثر انتشارا وعلو شأن على المناهج كلها رغم ما ألم بأهله من وهن وذهول.. تلك هي رحلة الإسلام والمسلمين ومسيرتهما الحيوية.. أليس هو بقادر على التجدد والتجديد؟ فمن أين المسير يا حادي الركب؟ الإسلام النموذجي:كان الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما في عهد الخلافة الراشدة لاسيما صدرها كتلة متداخل فيها النظري والعملي الروحي والمادي لا انفصام بينهما مندفعة بتجانس دونما شطط او تشتت..
كانت وحدة الروح بالشهادة ممثلة كأرقى ما يكون التمثل في جيل كان نواة مجتمع سريعا ما تنامى ليكون أكبر وأهم مجتمع حضاري عبر المسيرة البشرية.. كان الخليفة فقيها ومفكرا وعالما وقائدا وزاهدا.. لقد تجلى الإسلام في تلك الطليعة كأرقى ما تتجلى فكرة بكل أبعادها. وفي عقودهم القليلة وضع الرواد معالم النظام الاجتماعي والسياسي وابرزوا سمات قواعده وثوابتها وحددوا مهمات المجتمع الإسلامي الإنسانية، وأرسوا مفاهيم الإسلام واضحة حاسمة حول شتى المواضيع التي تعترض حركة الشخص والمجتمع.. واستطاعت الجماعة الأولى أن تحقق بما تيسر لها من وسائل وإمكانات صورة مكثفة لحياة بشرية لم تتكرر ولم تسبق..وكان لتوحد شقي المنهج الروح بالشهود القوة الكافية لاندفاعة معجزة تسقط الحكومات الطاغوتية والإمبراطوريات المستعبدة الاستبدادية بضربات قاصمة وسريعة وفي وقت واحد وتنطلق من بعد نحو العالمين تاركة في وجدان البشرية صورة مثالية للفتح وأخلاق المنتصرين.وبهذا تظل تلك المرحلة”عهد النبوة والخلافة الراشدة” مرجعية دائمة مستمرة لأي عملية نهضة من جديد وبمقدار اقترابنا من هذه المرجعية النموذجية نحقق انتصارات وبمقدار ابتعادنا عنها نسجل إخفاقات.ولحسن حظ أصحاب مشاريع النهضة أن الأمة تكتنز صورة مشرقة لمرجعيتها وتتوق لها وتملك عليها مشاعرها وتدور حولها مشاعرها تهفو إليها تستذكرها في مواجهة كل تحدي.. ولقد أثبتت المراحل المتتالية من التحديات ومحاولات إخراجها من سياقها التاريخي أنها رفضت كل المناهج الوافدة والمختلقة. منحنى الانهيار: كانت صفين الحدث الأخطر والانحراف الخطير أمام المسيرة الإسلامية فلقد تجمعت عناصر الانشقاق بين بعدي المنهج.. المنهج الذي أنشأ دولة كبرى وباندفاعة عملاقة شرقا وغربا لتشكيل قطبية كونية متفردة ونظام سياسي مبني على الشورى وحق الأمة في التنصيب والخلع ونظام اجتماعي قائم على التكافل والتكامل.. كل هذا أصبح على مذبح الصراع على الحكم بين خليفة مبايع بحق الشورى ووال خرج عليه بالسلاح.. وكانت كل قطرة دم جديدة تسقط بصفين إنما هي بمثابة توقيع جديد على انتهاء ذلك التوحد بين منهج الروح والشهود في واقع المسلمين.. في صفين حدث الشرخ بين مكونات العملية الحضارية.. لتنتهي بعدها عملية التوحد بشكل مأساوي ولتبدأ مرحلة الواقعية السياسية وحكم الملوك والمستبدين بالحكم.لقد كانت الخلافة الراشدة تسجيلا لمسيرة الإسلام في حياة الأمة وفي حياة البشرية.. ولم تكن الأخطاء منهجية بقدر ما هي إنفلاتات جزئية من هنا وهناك..
أما ما كان بعد صفين فهو تسجيل لمسيرة المسلمين ي تمزقهم وتشتت منهجهم وتنازلهم شيئا فشيئا عن وحدة المنهج الإسلامي وحضوره في حياتهم. لقد تلبس الدين بالسياسة عصورا طويلة مع الخلفاء والأمراء يتخذون ما يرون وينسبونه الى الدين.. أما علماء الدين فقد انخرطوا مع قضايا تهتم بالفقه و علوم الكلام “العقيدة”.. في حالة التلبس ضاعت معالم الدين باختلاطها بنزوات الحكم، وفي الثانية خسر الدين رسالته بتحوله إلى زمرة قوانين وتوصيات لمعالجات جانبية في حياة الناس.وعلى هامش التوزع انبرى عدد ليس بكثير من العلماء والمتدبرين الى التعمق خلف المعاني القريبة وأنشأوا علوما في الفلسفة والمنطق لا تخلو من شطط وخروج عن الثابت، لاسيما بعد نقل النصوص الإغريقية إلى العربية وانسحب من لم يرض بطش الحكام و لم يقتنع بفذلكات المتكلمين أو شرّاح القوانين والفقهيات إلى حيث تحرير الروح بالتأمل والزهد و التفرغ للذكر والشكر و تزكية النفس وأخذها بالالتزام بما يبعدها عن الشطط والمماراة كانت الصوفية وطرقها بدأت بحيوية وانتهت بطقوس لم يخل الامر من قدان بعضها حيويتها ونشاطها وتاثيرها الايجابي.تكاد تكون هذه هي الأصناف التي توزعت عليها منظومة المشتغلين بالدين.. وهي ما حول الرسالة الى وظيفة ومهمات مختلفة متباعدة يصعب جمعها في تمثل واحد، الأمر الذي انتهى بالإسلام الى تعريفات عديدة فقد كل منها القدرة على التقدم بمفرده في حياة الناس ومواجهة التحديات التي تعيشها البشرية.. بمعنى واضح عدم القدرة على النهوض برسالة الإسلام التي يناط بها رحمة البشرية وإزاحة الشقوة من حياتها.مع كل تفريعة حصلت انحرافات وتحزبات و تحولقات، وكانت السياسة التي يمارسها النظام السياسي تفقد قيمها الواحدة تلو الأخرى بعد أن فقد مشروعيته عندما اعتمد ولاية العهد، وتشكلت داخل الأمة جماعات وملل وطوائف اصطنعت لها طقوسا ومناسك تعزلها عن الأمة..
حلت النكبة بالأمة مع الاستعمار الحديث وسقوط الخلافة العثمانية وقد بلغ التشظي في كيانية الإسلام وجغرافيته مداه وقد وصل كل تفريع منه إلى حالة جمود أو تنطع وعصبية جاء الاستعمار الحديث ليكرس ما تسرب منها لتصبح ثقافات المنطقة متصادمة متنافرة، ولم يعد جسم الإسلام قادرا على التحرك معا بكل أعضائه في لحظة واحدة وقد تلبست كثير من فروع الإسلام بمفاهيم وافدة من عصبيات او ثقافات ليس لها صلة بروح الإسلام الصافي.. التحديات الجديدة:والآن.. فتحت جبهة أخرى من نوع جديد من المعارك حيث أصبح الدين قضية وليس رسالة.. وهنا برزت معركة القوى المضادة على اعتبار أن الإسلام قضية يجب أن تنتهي بتسوية ما.. والإسلام هنا يعني كتلة بشرية أو امتدادات في بلاد الغرب… هنا أصبح الإسلام قضية صراع تنشغل كثير من المؤسسات الغربية لحسمها.. وهكذا يصبح على الإسلام إعطاء إجابات على التحديات الداخلية والخارجية. الان يواجه الإسلام تحديات داخلية متنوعة متشعبة متناثرة وتحديات خارجية عسكرية واستراتيجية وتكنولوجية، وليس سهلا القول ان هناك محاولة متكاملة للإجابة.. ولعل الدعوات العصبية تكون حققت كثيرا من مراميها كما ان الدعوات الطائفية حولت أتباعها الى مواطنين معزولين عن بقية الأمة.. وهناك أخطار العلمانية واتباع المستشرقين ودعواتهم لتخريب وعي الأجيال وتثبيت مسلمات وبديهيات تدمر بقية احتمالاتنا.ان كمية الشر والحقد والعنف لا يمكن وصفها وهي خلق دعاة الطوائف والانفصاليين العرقيين وكذلك العلمانيين والحداثيين.. ولا مصطلحات تروج في أوساط هذه الاتجاهات الا بما يحمل معاني التكفير والتخوين للآخر، وتحشد القوة وتعبأ الطاقات في حروب الطوائف والإقصاء بلا تردد وبقسوة قل نظيرها.ان أي محاولة لتجميع هذه الألغام المؤقتة بأي شكل كان إنما هي من باب الوهم، وهنا يصبح الوضوح شرطا لتشخيص ما نحن فيه ولكن الأهم ان ننظر الى الأمام بما يحررنا من الفقر والتخلف والهزيمة.. كما أن المكوث عليها بمناقشتها وتفنيدها ومجادلة أصحابها لن ينتهي إلا لفراغ وهدر الوقت والطاقات..
إنما لابد من مبادرة فكرية وسياسية ترسم ملامح نهضتنا وانتصارنا ننطلق من ما نحن حوله متفقون.. والانطلاق من تلك اللحظة الى صناعة واقع انتصار وتراكم الانتصارات سيصنع أجيالا من الأمة أقوياء صرحاء وأذكياء.لقد كان لجواذب السقوط المريع التي تحكمت في مسيرة الأمة سلطانها على المسيرة الإسلامية برمتها ولقد انتهت بها حيث نعرف جميعا، والأمر يحتاج حقا برامج تثقيف وتحسيس بخطورة ما نعيشه من تشتت على مستقبلنا.. ولكن من المهم النظر إلى سقوط المعسكر الاشتراكي وتلاشيه كما ان المعسكر الرأسمالي يعاني انهيارات لن يطول بها الزمن حتى تهوي به.. وليس هناك كرة على وجه الأرض تمتلك حيوية وطموحا سوى الكرة الإسلامية ..والأمر هنا يستحق التفكر والانتباه والكلام المسؤول الذي يدعو إلى مستقبل جديد بلا انغلاقات ضارة.. ومن المعلوم أن لا جزء من الأمة يستطيع النهوض دون الأجزاء الأخرى.. وهنا ندرك قيمة التحذير الالهي من العصبيات الجاهلية وقيمة وصف الرسول صلى الله عليه واله للعصبيات الجاهلية وما تحمله من خطر على وحدة الامة ومستقبلها والله غالب على أمره.