بقلم د.نزار نبيل الحرباوي
سعادة غامرة عشتها عندما اجتزت النهر باتجاه الأرض المغمورة بالعشق والقداسة، شعور يشبه شعور ميلاد الإنسان من جديد بعد عقد ونصف من الغربة، كل نفس تأخذه هنا له معانٍ لا يفهمها إلا العشاق.
عدت محملا بالشوق لكل تفاصيل الحياة ووجوه الناس التي تبسم رغم كل الظروف القاهرة، شاهدت الباعة على أبواب محلاتهم التجارية، وشممت عبير كعك القدس من العيزرية، وتنسمت هواء الجبال العالية التي تغني للسماء أغنيات الثبات والتاريخ، وتبث لها رائحة الزعتر البري، الذي يغالب كل تقلبات الطقس والواقع، وعرفت أن الروح لا تعيش خارج وعائها مهما حاولت.
هي هي، لا تغير أثوابها القشيبة، ولا تتبدل برغم السنوات العاصفة، إنسانها الذي شرب من الزيت الأصلي لزيتونها الذي يعمر لمئات السنين لا يمكن أن ينقلب على الزيت ولا الزيتون، طيبة أهلها ونقاء الروح فيهم، وهواؤها الذي يمزج بين ذكريات الأمس وأحلام الغد يملأ رئتيك بالفخر؛ لكونك قد تنسمته ولو للحظة، هي الأرض العجيبة بكل ما فيها وبكل من فيها، لا يمكنك التنبؤ بجماليات الحياة فيها برغم كل القسوة التي تملأ الظاهر.
تجوّل في شوارعها، تقلب على ترابها المتشبث بالعشب الأخضر اليافع، سلم على تجار البلدة القديمة في القدس يردون عليك السلام ذاته وبالطريقة والأسلوب والكلمات واللهجة نفسها، ادخل من أي باب في القدس للأقصى لتشعر أنك ذاهب للجنة على أجنحة الغيوم الحالمة، كل حجر في أسوارها وبلاطة في شوارعها تكلمك، تسعد بك وبوجودك، وتنثر في خافقك دفقا من الشعور السحري بأنك قد ولجت لأرض تعشقها وتعشقك.
دخلت على مدنها وقراها، يسابقني الهوى، ويغالبني الشوق الجارف لرؤية المزيد، تجولت في مصانع العطاء وشركات العمل الدؤوب التي لا تعرف الكلل، دخلت شركات الشمال والجنوب، وتعرفت إلى الغرف التجارية ومجاميع رجال الأعمال، وعرفت همما في الاقتصاد لا تعرف الكلل، ولا تؤمن بالصدف، وتنشغل بتطوير نفسها كنموذج للنجاح برغم معيقات الواقع، وقد وجدت ما بين منشأة وأخرى مليون معنى للحياة في جوف الحياة.
لقد عرفت في كل بيت وشركة وحي من قيم الاستمرارية والعطاء دروسا وعبرا، وتعلمت من عيون الطفل الصغير الذي يسير صباحا تجاه مدرسته القديمة أن الحياة قرار، وأن النجاح قرار، وأن هذا التراب يدفع السائرين عليه نحو مساحات من الحياة لا يمكن أن يعرف بها الغارقون في عالم المصالح الذاتية، الفانون في ثوب حياة لا معنى لها، ولو ركبوا أفخم السيارات، وسكنوا أرقى البيوت، ولبسوا أثمن الثياب، فالحياة لا تطيب إلا بماء يروي القلوب، وهواء ينعش العقل، وزيت وزيتون يبعث في القلب دفقا من اليقين يسبق كريات الدم الملونة، عدت لها وعادت لي، ووداعا لمليار نفس تنفسته خارجها غير مأسوف عليه، ولكم من الجنة السلام.