ما قبل الكتابة.. مخاض لا بدَّ منه!

بقلم عمر عاطف نوفل

“ما أرى أحداً يفلح في الكتابة والتأليف؛ إلا إذا حكم على نفسه حكماً نافذاً بالأشغال الشاقة الأدبية سنتين، أو ثلاثاً، في سجن الجاحظ، أو ابن المقفع، أو غيرهما”

– مصطفى صادق الرافعي

لم أكن فِي يَوْم مِنَ الأيَّام أَوْهِمُ نفسي أنّي كَاتِبٌ مَرْمُوقٌ يَعْرِفُ أَسْرَارَ الكِتَابَة، أو مما يَتَعَاطَى صناعةَ النَّثر، لكن حقيقة الأمر؛ أنّي في الدْرَجَةُ الأولى قَارِئٌ، لا يمكن أن يمر يوم دون أن أَقْرأَ، أو أن أَتَحَسَّس كتابًا بيَدي، فأنا لا أستطيع عن القِراَءةَ فكاكا، لذلك عندما أَقْرأَ؛ لا أعرف طريقاً إلى ﺍﻟﺴﺄﻡ، فهي مُتْعَةٌ فِكْرِيَّة، وسِياحَة، رُوحِيَّة، واِسْتَرْوَاح عن النفس، فإدامة النَّظَرُ في الكتب مُتْعَة لا تُدانِيها أيُ مُتْعَة. وكما يقول “البرتو مانغويل”: “أستطيع العيش بدون كتابة، بيد أني لا أقوى على العيش بدون قراءة”.الكِتَابَةُ أَشْبَهُ بِعَمَلِيَّةً قَيْصَرِيَّة!

يسألني البعض: قرأنا لكَ مَقالاً وهى مُقدِّمة جيِدةَ لبداية مِشْوَارٍ في عَالَم الكِتَابَة،َ وربما التَأْلِيف مع قادم الوَقْت،ُ والأيَّام، لو نميتَ نفْسَكَ، وصَقلتَ موهِبتَك، ستُمكنكَ من الإجادة في الكِتَابَة، أو في نَظْم الشِعْر، وستكون حَسَنُ القَرِيحة ،حينها أَقِفُ ضاحكا ليس ذلِكَ لفقدان الثِّقَةُ بالنفس، أو التَّقْليلُ من الذات، لكن الأمر أعقد مما تتخيل، فأنا عندما أَقْرأَ ؛أشعر بمتعة فائقة وهى عَمَلِيَّة لَيْسَ من الصعوبة بمكان، فلا يتطلب الأمر أكثر من كتاب، وخلوةٌ، وقهوةٌ، وتقرأ، وربما تأخذك الساعات دون أن تشعر، لكن الأمر مع الكِتَابَة يختلف كثيراً. لذلك أعتبر أن الكِتَابَة هي تَوْلِيدُ الكلمات، وإخراجها من رحمها ،فهى أَشْبَهُ بِعَمَلِيَّةً قَيْصَرِيَّة، قد تموت الكَلِمَاتُ في مهدِها، وقد تخرُجَ مشوهة لا تعجب أحداً، وقد تولد بِطريقة صحيحة، يتلقَفهَا الجميع بالمتعة والدَهْشَة، ويكتب لها الشُّهْرَة قبل أوانها.

مُمَارَسَةُ الكِتَابَة أمر مُرْهق، ومعنَى أن تكتُبَ أن تستجمِعَ قِواكَ العقليّة، والنفسيّةَ، ومن ثم بعد ذلك تجميع الأفكار، وصهرِها في بَوتقَةٍ واحِدة، بعد أن تكون الكَلِماتُ أخذت موضِعَها الصَّحيح. بعد دأب ومثابرة وقد قال الجاحظ قديما “المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدويّ والقرويّ لكن مَنْ يلتقطها ويقدمها لنا ثمرة ناضجة يانعة”.

عدم الكِتَابَة بالنسبة لأي كاتب حقيقي تعنى الموت. ليس الموت بمعنى الاختفاء. ولكن الموت بمعنى الرحيل عن الدنيا وما دام الكاتب قادراً على الكِتَابَة يمكنه أن يقول إنني ما زلت حياً

يأتي القَرَارُ الأصعب، هل هذه الكلمات هي مجرد هذيان كاتب أراد أن يكتب؟ أم فكرة ألحت عليه حتى اخْتَمَرَت كتابَتُها ونشرِهَا، ومن ثم هل ستكون عند ظَنّ حُسْن القُرَّاءَ. ربما لحظة ما قبل النشر هي الأصعب على الكَاتِبُ، كما لو أنُه يرقبُ طفله الأول؛ فهو قد يرسمه في مُخَيِلتَه على أشكال عدة، وفى هذا المضمار يقول الأديب المبدع، وصاحب القلم السيال، ربيع السملالي: “إيّاكم والتّسرّع في النّشر والطّبع.. اقرأوا نصوصَكم مرّاتٍ بتأمّلٍ وتدبّر قبل أن تصبح ملكًا للقارئ!.. راجعوها اليوم وغدًا وبعدَ غدٍ.. فقد تكونُ العبارة ركيكةً، والمعلومة خطأ، والفكرة سطحيّةً، والأسلوبُ عاديًا أو أقلَّ من عادي.. ولكن لا تشعرون بذلك كلّه”.

الكُتَّاب بين تدفق الأفكار.. واستحالة الكتابة

يَتسَاءلُ الأديب “يوسف القعيد” في إحدى حوراته: ماذا يفعل الكاتب عندما يكتشف أنه لم يعد قادراً على الكتابة؟ ويقف أمام حائط لا يعرف ماذا يفعل. إنها حالة تسمى استحالة الكِتَابَة ويردف قائلا: “إن عدم الكِتَابَة بالنسبة لأي كاتب حقيقي تعنى الموت. ليس الموت بمعنى الاختفاء. ولكن الموت بمعنى الرحيل عن الدنيا وما دام الكاتب قادراً على الكِتَابَة يمكنه أن يقول إنني ما زلت حياً لأنى لم أقرر الموت بعد”.

ويوضح القاص المصري “أحمد الخميسي” أن الكثير من الأدباء يمرون بحالة “توقف إبداعي”، تسمى “سكتة مؤقتة”، وبعضهم يتوقف عن الكِتَابَة نهائيا، كما حدث مع عادل كامل زميل نجيب محفوظ الذي نشر عدة روايات وتوقف نهائيا. ومحفوظ أيضا توقف بعد “الثلاثية” وقفة طويلة حتى ظن أنه لن يكتب ثانية أبدا، لكنه رجع إلى الكتابة. وهذا الصدد قال “نجيب محفوظ” في حوار له مع فؤاد دوارة “إنه كان أحيانا يجلس إلى المكتب وليس في رأسه فكرة”.

قال القاضي الفاضل أستاذ العلماء البلغاء عبد الرحيم البيساني وهو يعتذر إلى العماد الأصفهاني عن كلام استدركه عليه: “إنه قد وقع لي شيء وما أدري أوقع لك أم لا؟ وها أنا أخبرك به، وذلك إني رأيتُ أنه لا يكتب أحد كتاباً في يومهِ إلا قال في غَدِهِ: لوُ ُغَّيرَ هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يُستحَسن، ولو قُدَّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”. وكانت الكاتِبَة المعرُوفَة “جورج ساند” تعني عِنَايَة فَائِقَةِ بِصنع الحلويات، وكانت تقول: “إن إنفاق بعض الأصناف أَصْعَبُ عندي من تأليف رِواية”.

حرارة الكلِمة.. بين النضج والركاكة

لو سَألْتُ نفْسَكَ كم كِتابًا يُطبع في كل دقيقة في العالم، وكم عدد الكتب لصُدمت بالعدد المَهُولٌ، لكن الأمر الجَدِيرُ بالإجابة من بين ملايين الكتب لماذا فَقَط بعض الكتب التي تفوز بالظفر ويتلقفها الجُمْهور بشغف وتصبح مِلْءَ الآفاق؟ انها حرارة الكِتَابَة، والصدق في القول، هناك من الكُتَّاب من قد يُؤَلِّفُ مَجْمُوعَة كَبيرة من الكتب، ورغم ذلك لا يحدث أي ضَجِيج. فقط كتب توضع في مكانها قلما تلمسها يدُ قَارِئٌ، وفي المُقَابَلُ قد يُؤَلِّفُ أحدهم كِتابًا واحداً يكون ربما مولوده الأول وينتشر كنار في الهشيم. القَضِيَّةُ ليست في الكِتَابَة في حد ذاتها، الأمر يتعدى ذلك إلى مَدَى قُوَّةُ هذه الكلمات، ومَضْمُونِها ومَدَى ملامستها للواقع، وتفاعل القُرَّاءُ معها.

وقد تمسك كِتابًا لا تتركه إلا وتكون قد أجْهَزتَ عليهَ، والعكس صحيح ربما تُمسِكُ كَتابًا وتتركه من أول وَهَلَةٍ تَقع نظَرك عليه. الكُتب كما الأرواح هناك من تألفَها وتنشء علاقة معها، وهناك من تشعر بالسأم، والمَلَلُ منها. وللدكتور الأحمري في كتابه “مذكرات قارئ” كلام جميل جدا عن الكتابة يقول: “والكاتب العظيم هو قارئ عظيم”

.صياغة الأفكار.. أصعب من صياغة المعادن!

عندما تقرر أن تكتب عن شَخْصِيّة مَشْهُورة، أو أديبٍ أَرِيب حاذق بالأَدب وفنونه، سخر أدبه في قضايا أمَّته، أو مُخْتَرِع عَاشَ حياته يُجري التجارب حتى غدت اختراعاته لا يستغني عنها الناس، تَسأل نفسك: هل ثمة كلمات ستوفي هؤلاء، وإذا ما عقدت العزم أن تكتب عنهم تحاول أن تنشئ الكلمات، وتضعها في مكانها المناسب، وقد تشعر في لَحظة أنها كلمات ميتة خاوية على عروشها فتحكم على كلماتك بالاعدام؛ وتُمزقَ أوراقك.

الأمر لَيِسَ بالهَيِّن. لقد مررت كثيراً في هذه الحالات، وربما قد ساورني اليأس في بعض اللحظات لكثرة تمزيق الأوراق! لعدم رضاي عمّا أكتب، وما زالت تقرع أذني مقولة الأديبة الرائعة “مي زيادة”: “إن صياغة الأفكار أصعب وأوجع من صياغة المعادن الثمينة، والأحجار الكريمة، إنها ليسكب عليها المرء أحياناً قوى نفسه، ويغذيها من حشاشته، ويرويها من دماء حياته، ولئن كان في ذلك مشقة؛ فإن فيها مجداً عظيماً”.

رغمَ ذلك كانت دَوْمًا لدي رَغْبَة مُلْحَة للكِتابة، فالأحداث والوَقَائِعُ تفرِضُ نفْسهَا. وقد مر الأديب “فرانز كافكا” بهذا الشعور فكتبَ يقول: “سوف أكتب رغم كل شيء، سوف أكتب على أي حال. إنه كفاحي من أجل المحافظة على الذات”. وأنا أقول: سأبقى ممتشِقاً كلِماتي، حتى لو بدت رَكيكة المعْنَى، وبِدون طعم، أو رائحة، حتى أصل إلى النضج، حينها سأحترق! لأني مؤمن أن الكلمات هي طلقات تخرق العَقُولُ قبل الأجساد فتدميها، وقد لا يندمل الجرح سريعًا.