“هيا قف على قدميك، ولتنته هذه الحسرة
فيا أيتها الرياح اللعينة،
من الآن هبي من أي جهة تريدينها”
سبعون عاما من الصبر والانتظار، ومسلسلات من المعاناة والملاحقة، وفتن هائجة نجمت من السياسة الخرساء، وحكايات فخر وكرامة على مر العصور، تقف رابطة المسلمين لعموم الهند أبية صامدة، وتحمل في طياتها تواريخ حاسمة سجلتها الأيام بقلب مقشعر، وبإحساس دافق، تلك الفترة التي خاف مسلمو الهند انطماس هويتهم في مسقط رأسهم، حينما هبت الأطماع اللعينة في نوافذ السياسة وجاءت فاغرة أفواهها تجاه أمة رسمت تاريخا حافلا بالكرامة والعزة في جبهة وطنهم، وأشير البنان إليهم تهمة وافتراء حتى تعرضوا للإقصاء من ميادين الحرية والعدالة. ومن تلك اللحظات الكريهة، الناتنة جوها، والمالحة صفوها، تولد حزب صامد في قلبه نبضات إيمانية وومضات متقدة تستذكر الأيام الخوالي الفاخرة، وتجدد آثارا تلمع في حلة الإسلام عاصمة بعد عاصمة، وكانت هذه الولادة حصيلة أفكار تجمعت في دماغ قائد ووالد، سياسي محنك، صوفي ورع صالح، ينشئه الوعي الديني والوفاء للأمة، ومشاعر ذات بصيرة تخرق أسوار الزمان وتمزق ستائر الخيال، قائد الملة محمد إسماعيل صاحب، هكذا دعاه أحباءه وأعداءه، الشخصية المباركة الميمونة التي حاز على احترام كبير في أوساط السياسة الهندية.ولم يزل اسمه مترددا في جدرانها وأركانها، لا سيما في لباب الأقليات والطبقات المشردة، الرجل الذي فاز في الانتخابات البرلمانية من غير أن تضع قدمه للمرة الواحدة في تلك الدوائر والمناطق التي رشحته نائبا، لأن الشعب أحبه من بعد الأميال وتبادل محبته إلى الأجيال، رجل تمشى وسط العوام بشعبية واسعة قلما نالها زعماء السياسة، صرخته تعالت فوق الثورات والصراعات الأهلية، وهرول إليه زعماء الدولة طالبين الحل بنهج سلمي، فكرته المتزنة وقريحته الفاتنة شكلت في الهند قوة أبت أن تخضع دون جشعات المستغلين ، إنه صقر الهند الذي علم الأمة كيف تتجذر الجبال أمام العواصف الضاربة، وكيف تتثبت القلوب في الأوضاع القاسية، وكيف تمس القمم جبهة السحب الداكنة. فكرة تبنت سياسة الأمة
لم تكن سياسته وليد لحظة أو انبثاق فرصة، بل كانت مستلهمة من المآسي التي تعرض لها المسلمون إثر استقلال الهند سنة 1947 م، وقد جرحته المجازر الإبادية التي حدثت في حدود الهند خلال الهجرات الجارفة بين الدولتين، وفي هذا المنعطف السياسي الخطر وقف المسلمون في ثلاث شعب قوية، وظلت الفترة حالة من الرعب والقلق بالنسبة لوعي الأمة ووقعت هويتها تحت الخط الأحمر، واحدها كانت خطاب السيد أبي الأعلى المودودي الذي دعى إلى نبذ الحكومة والانقلاب عليها، وخطط له طريقا إسلاميا في بوتقة العنف والشدة. والثانية فكرة السيد أبي الكلام آزاد التي لها نكهة علمانية اجتماعية، وكان سياسيا واكب الاتجاهات القيادية، ونادى المسلمون إلى الانضمام في الجبهات العلمانية وترك القرار لتشكيل كتلة تخص بهم حتى لا يتورطوا في كمين الأحزاب السياسية المختلفة، وكان من أشد المعارضين لدولة باكستان، والثالثة هي التي رسمها قائد الملة محمد إسماعيل صاحب، الذي نادى إلى إحياء رابطة المسلمين وتجديدها وتعزيزها في جمهورية الهند المستقلة، بينما خالفه كثير من زعماءها قائلين عقب تشكيل دولة باكستان بأن هدف الرابطة قد تم عليه القضاء ، فلا بد من فصلها وخلعها، لكنه لم يتعثر في موقفه بل أوضح لهم ضرورة بقاءها في الهند، لأنه وقف في وجه المستكبرين وصرخ” إن رابطة المسلمين في نقاب الهند ستظل باقية إلى الأبد، حامية وجود الأمة، ومتبنية آلامها وصارخة لحقوقها، فإنه إن خسرنا هذه الرابطة واحتلت مكانها الأحزاب السياسية المتربصة سيكون قوام الأمة تحت الخطر،فلا تستطيع مواجهته لا سيما إذا تشتت الأصوات ودخل فيها الوهن”.
كانت عينه وقادة كشفت كل محاولة شنعية تمتد إلى الأمة، بل كان على وعي ناضج من سقوط الخلافة العثمانية وما والاها من نكبات وخسارات كبيرة في الدول الإسلامية، وأنتجت له هذه الآلام والجروح فكرة خارقة العادة، هي تأسيس حركة قوية تهتم بأمور المسلمين وتحمي هويتهم من غير عنف ولا نهج متشدد، فأما رابطة المسلمين لعموم الهند كانت لها صدى واسع في شرقي الهند وغربيها قبل الاستقلال، لا سيما بعدما تولى القائد الأعظم محمد علي جناح قيادة الحزب والشاعر الإسلامي محمد إقبال، لكن الأوضاح لم تسمح له بعد الاستقلال، لأن الولايات الأكثر إسلاما انضمت مع باكستان وهاجر إليها جل كبار قادتها حتى شذت بعض المناطق التي فيها للمسلمين قوة معتبرة، كولاية كيرالا، وتامل نادو وبنغال، وغيرها من علاقات أتربرديش مع أن عدد المسلمين فيها كبير، لكنهم بقوا صامدين بوطنهم ومسقط رأسهم، في الحقيقة هذه الفترة المظلة ولدت فيه فكرة التأسيس والتسييس، وكان شعاره “سياسة ذات الكرامة ووجود مع الإباء”.
وفي سنة 1948 مارس 10 خيمت في بلاط الهند سحب قاتمة تحتوي آلاف القلق والأمل، بينما تنتظر فئة وأد هذه الحركة وتنتظر أخرى ولادة طفل جديد، واجتمعت الجلسة في قاعة راجاجي، وشهدت حضور عدد كبير من زعماءها، حتى غلب على الظن بأن رابطة المسلمين ستذهب جفاء لحد أن قام محمد إسماعيل صاحب وأوضح قراره بشكل عقلي أمام الجلسة حتى تخيبت آمال المتشائمين ودفنت مخططاتهم السامة في عقر دارهم، وكان هذا القرار صادما للغاية ومفاجئا، لأن حكومة الهند التي اعتلاها مؤتمر الهند الوطني لم تسمح لترك أي قاعة لعقد جلسة رابطة المسلمين، وكانت الحكومة ترمي كل تهمة عليها وتوقفها في منصة الجرائم، إلا أنها سمحت بقاعة راجاجاي الحكومية ظنا بأن الرابطة سيتم عليها القضاء ضمن ساعات قليلة، ولم يك ثم أثر فأل يحكي بعودة الرابطة إلى غمار سياسة الأمة وبهذه التقلبات التي جرت في القاعة.
ولاحت خلال تأسيسها فكرة قائد نبضت بوعي الأمة المخلص، لقد كان تاجرا صاحب ممتلكات هائلة ثرية، لكنه خلاها وعزلها وأنقفها في تحقيق أحلام الأمة سياسة واجتماعا وتربية، وتجول في الهند حاملا في عاتقة رسالة الرابطة وقد أثخنه فراق أقرانه وزعماءه من فناء الرابطة، لقد بلعهم الدهر وألقمتهم قناطير المال الفياضة من كهوف المستغلين المتربصين، لكنه لم يتخلص من ملاحقة الحكومة واصطيادها ومراقبتها، لقد كانت وراءه كل لحظة، كأنها خافت منه المزيد من المعجزات الخالدة، ومن هنا بدأت الحرب مفتوحة بين حزب صغير يهتم بقومه وحزب شديد يتمتع بالحكومة والأموال.
جيفة حمار أو بعثة أسد مزير “أيها الرجل الموقر، جوهر لال نهرو، اعلم بقلبك بأن رابطة المسلمين لم تك قط جيفة حمار نتنة بل هي ترتدي حلة أسد مزير، فإياك أن تغفل عنها”.
الكلمة الصارخة الضاربة في وجه رجل قوي في سياسة الهند، تفجرت من فم مسلم “مابلاوي” في رأسه قلنسوة تعبر عن هوية الأمة ردا مفحما لخطاب جوهر لال نهرو الذي أقسم لقطع جذور رابطة المسلمين من الهند، ثم كانت هذه الكلمة شعار أمة مشردة تخلفت لأسباب سياسية منفردة، وظلت بعدها صامدة في دربها وممثلة وعي الأمة في كل المجال.
ومنذ انطلقت رابطة المسلمين بمبادراتها ورؤيتها الخالدة في ميدان السياسة التي تعبث بها ألاعيب نهرو والشيوعية اشرأبت إليها أعناق الحقدة والمكرة، وحيكت في مفاعلهم مسرحيات الخدعة والمؤامرة التي تستهدف بها إطاحة الرابطة من مسرح أحلامها وجعلها أثرا بعد عين، وكان السيد جوهر لال نهروا في مقدمة هؤلاء السادة، وقد هيجه تأسيس الرابطة بكل قوتها وإرادتها مع أن له يد بيضاء في المؤامرات التي توجهت للقضاء على هذا الحزب. وخلال هذه الأحداث الأليمة واصل السيد محمد إسماعيل صاحب عمله ولم يتزحزح أمام هذه الأعاصير التي ستذهب عقيما بعد قليل، وقد ساير معه سائر مسلمو كيرالا قلبا وقالبا. وقد عرفته قراها وشوارعها، لأن لها رؤية تخترق حواجز الزمان وقد علمت بأن الرابطة وحدها هي البوابة التي تقودها إلى بلاط السياسة، فمن أبرز قياداتها فضيلة السيد محمد علي شهاب ووالده الحنون السيد أحمد فوكويا، وقائد القوم السيد عبد الرحمن بافقيه، وفوق ذلك لقد وقف مع هؤلاء السادة الشرفاء الخطيب المصقع سي إتش محمد كويا الذي دعته كيرالا احتراما وتبجيلا ب”أمير المؤمنين” لما قام بجهود مخلصة وهو المسلم الوحيد الذي اعتلا رئاسة وزراء كيرالا، والذي غير وجه التاريخ حتى ناهض بتجديدات رسمت خلالها مستقبل مسلمي كيرالا، وبجهده وجهاده تولى وزراء رابطة المسمين وزارة التربية والتعليم لأكثر من مرة.
وتوفي القائد المرحوم سنة 1972م، وسطعت حياته كمصباح راهب في ليلة ليلاء، إنه عبقري قلما نجده من بين أضلع الأمة.