بقلم: سيف الإسلام
شخصية الإمام الغزالي الفذة..
كان الإمام الغزالي دائرة معارف عصره، تبحر في مختلف العلوم والفنون حتى لقب بحجة الإسلام،
ورغم تبحره ومهارته في هذه العلوم لم يسعد له وقت يليق به للعكوف على الأحاديث النبوية حتى عرض عليه انتقادات شديدة من جانب العلماء المتقدمين والمتأخرين، ومع ذلك كان يخوض في معركة الزمان حسب متطلباته وقضياته، ويمد قلمه طبق حوائج الناس فلسفة وفقها وكلاما وتصوفا، حتى مرت عليه أربع مراحل مهمة من الفقه والأصول والفلسفة والتصوف وعلم الكلام، وقد ثبت أن حياته المحتوية خمسة وخمسين سنة مقسمة في أربع عقود علمية، والعقد الأول يمضي مع أحلام الطفولة كالعادة، ثم بقية العقود لها أهمية جدة في بناء هذه الشخصية الفذة حيث إنها تشكل حياته العلمية وتستهل معتركات الفلسفة والكلام والمناظرة.
وإذا تتبعنا بالدراسة في مؤلفات الغزالي المطولات والمختصرات من الرسائل والمقالات لا نجد منها كتابا خاصا في علم الحديث. ولكن إذا اطلعنا على هذا المؤلفات ودرسناها بدراسة دقيقة فنجد فيها بيانات وإشارات تدل على أن الإمام الغزالي اعتنى علم الحديث وناولها عبر كتبه المتعددة. وكذلك عدة مقالات ورسائل توضح منهجه وكيفيته في علم الحديث.ففي بعض المؤلفات ك”المستصفى من علم الأصول” و”المنخول من تعليقات الأصول” أورد فيها الغزالي دراسة دقيقة عن علم الحديث مع أن كتابه المنخول إنما كتبه لأجل ما طلب منه تلاميذه فمن الضرورة أنه لا يستطيع لوضع قواعد ومعايير في علم الحديث إلا بعد الاطلاع عليه، وكتبه في الفقه كالوجيز والوسيط والبسيط والخلاصة أيضا تحتوي ما يدل على اطلاعه في علم الحديث لما أنه يوضح المسألة ويثبتها على ضوء الحديث.
وبعض المؤلفات ك”إحياء علوم الدين” و”أيها الولد” فمسألات تدور في طاولة علماء المحدثين حيث تحتوي صفحاتها بأحاديث لا أصل لها عند المحدثين. ولكن يظهر في مؤلفاته الفقهية والأخلاقية القسم الثالث من علم الحديث.
دراسة الغزالي بعلم الحديث دراية
كان الغزالي يدرس العلوم الإسلامية عند الإمام أبي المعالي ضياء الدين عبد الملك ابن محمد عبد الله بين يوسف الجويني النيسابوري. رحمه الله – المولود بمحافظة خراسان في الثامن عشر من محرم سنة تسع وأربع مائة هجرية. المتوفى ليلة الأربعاء من صلاة العشاء من شهر ربيع الأخر سنة ثمان وسبعين وأربع مائة، وفي هذه الفترة الدراسية يبدو أنه قد درس هذا العلم. وكتب فيه كما هو واضح في كتابه” المنخول من تعليقات الأصول” في كتاب “الأخبار”.
وعندما نتفحص في تقسيمه الأخبار إلى المتواتر والآحاد وما يجب تصديقه وتكذيبه والوقف عنه يتجلى أمامنا أنه خاض فيه خوض ماهر في علم الحديث. وأنه تأثر بالخطيب البغدادي خاصة في كتابه” الكفاية” لأنه تنعكس فيها تأثيراته جلية، ومن الواضح أن المراد بعلم الحديث دراية وهو علم يبحث فيه عن أحوال الراوي والمروي من حيث القبول والرد وهو المشهور عند المتأخرين بمصطلح الحديث وأصول الحديث، وله تعريفات عدة كلها بمعنى واحد.
دراسة الأحاديث في مؤلفاته
وقد ألف الغزالي في مختلف مجالات العلوم مؤلفات هائلة ووفق له لهذا السعد المبارك في عمر قصير ينحصر في خمس وخمسين، وبهذه الثروة الحافلة كأنه سد ثلمته في علم الحديث، وأكثر ما مدت رشحاته كانت في التصوف والأخلاق، وأورد فيها أحاديث مختصرة ومطولة ومروية بالمعنى كأنه علم الأحاديث وفحصه على منهجه الخاص.
وقد خرج العراقي والحسيني الأحاديث المذكورة في دراستهما. وفي الدرسات الفقهية والأصولية فإن الغزالي إمام من الأئمة فيها باتفاق الجميع وبشهادة من أستاذه الجويني{ الغزالي بحر مغرق وإلكيا أسد مطرق والخوافي نار تحرق } وكان يعتمد في هذه الدراسات على الأحاديث النبوية، وهذا مما يدل على مدى بصره فيه. وينطق هذا كتابه الوجيز والوسيط والبسيط حتى نجد أبا القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي المتوفى سنة ثلاث وعشرين وستمائة يضع كتابا سماه” العزيز شرح الوجيز” أما أصول الفقه فلا حاجة إلى بيان طول يده فيها كما كانت هي عادة تلاميذ إمام الحرمين كإلكيا الهراسي والخوافي. أما الدراسات الأخلاقية المبنية على الأحاديث النبوية فلا حاجة إلى تقديم أدلة تدل على معرفة الغزالي بعلم الحديث لا سيما بالمعنى الثالث يعني دراسة معاني الاحاديث، وتبدو هذه من كتاب “الإحياء” في باب المنجيات والمهلكات.
فبناء على البيانات السابقة والإشارات المذكورة تنطق جليا وتأتي كصبح بهي أن الإمام الغزالي كان على علم بعلم الحديث بالمعاني التي ذكرناها وهي:
أولها: علم دراية الحديث
الثاني: علم رواية الحديث
الثالث:علم دراسة معاني الحديث من العقائد والأحكام والأخلاق.
وقد وردت مؤلاته تبيانا لهذه الحقائق إلا أنه أصبح منفردا من جادة العلماء ببعض مواقفه من الحديث، فأما ما أورده العلماء من المتقدمين والمتأخرين من إطالة الكلام حول موقفه من علم الحديث مما تخرج من قلة البحث والنظر في مؤلفاته ومقالاته ورسائله ومن المقارنة الضئيلة بمؤلفاته في غيره، لأن الإمام مع تفوقه في غيرها لم يسعد بهذا العلم وأتى ذلك القصور في المنظر العام حتى وضع في طاولة النقاش والحوار.
الأحاديث المسردة في الإحياء
وهذا هو نفسه محور انتقادات العلماء المعاصرين، ولأجله يتشابكون في شخصية الغزالي، وقد أورد الغزالي عديدا من الأحاديث الضعيفة وما قيل فيها إنها موضوعة، وعلى سبيل المثال قال العراقي ” حديث أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه رواه الطبراني في الصغير والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف” ، وفي وقت نفسه، أن باب الضعيف والتضعيف واسع مفتوح على مصراعيه حتى يتفاوت فيه العلماء وينظرون إليه بعيون مختلفة، وأما الأحاديث الموضوعة فإن العراقي يقول عنه “حديث منكر أو منكر”، أو يقول “هو باطل لا أصل له” وعلى سبيل المثال” حديث المغبون في الشراء لا محمود ولا مأجور” أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر من رواية عبيد الله بن الحسن عن أبيه عن جده ورواه أبو يعلى من حديث الحسين بن علي يرفعه قال الذهبي هو منكر” ، وقد عد هذا الحديث من الأحاديث التي استنكرها العراقي.
وإذا اختلف علماء الحديث في الأحاديث الموضوعة فإنهم أيضا اختلفوا في الأحاديث الضعيفة لاختلاف مذهبهم في الجرح والتعديل، ولذا قال المرتضي” وأن بعض من يضعفه أهل الحديث يقويه بعضهم وبعض من يجرحه ويذمه واحد يعدله ويمدحه آخر فصار مختلفا فيه فلم يرد حديثه بقول واحد دون من فوقه أو مثله
وإذا كان الأمر كذلك نقول إن الأحاديث التي حكم عليها الحافظ العراقي بأنها ضعيفة أو موضوعة قد حكم عليها غيره بخلاف ذلك منهم محمد بن محمد الحسيني، وقد بذل كل واحد منهما مجهودات عظيمة في تخريج أحاديث الإحياء.
أما الأحاديث الضعيفة فلا ترخص قيمته أبدا حيث روي عن أحمد بن حنبل أن الحديث الضعيف آثر عنده من الرأي والقياس، وهذا الرأي مشهور في مذهب الحنفية أيضا، وإن أورد الغزالي الأحاديث ناقلا من كتب الصوفية والصحاح وكان على يقين أن منها ما هو صحيح وسقيم ولم يركتب متن عمياء ألبتة.
هل يعد الغزالي في زمرة المحدثين
إن الغزالي مع شخصيته الضخمة كان مزجي البضاعة في علم الحديث كما اعترف من عند نفسه، ولكن كان له نظرة عميقة في علم الحديث تساير حركات زمانه، وإن لم يهتم بالدقة والضبط كان له اطلاع واسع في ذلك المجال، فإنه محدث لا كالعسقلاني والخطيب البغدادي، وليس بمتصوف تحير في أسرار التصوف كما وقع لابن العربي والحلاج والمكي، بل كان يعرف الفقه وأصوله والفلسفة وعلم الكلام والتصوف.
وأما الأوهام الحديثية لا يكاد يخلو منها أحد حتى وقع فيها كبار من العلماء الذين لهم خبرة واسعة في مجال علم الحديث نقدا وتحليلا كابن الصلاح والنووي حيث تعقب ابن حجر النووي في حديث أنه ﷺ قال لأسماء – عن دم الحيض “حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء”، حيث قال”زعم النووي في شرح المهذب أن الشافعي روى في الأم أن أسماء هي السائلة بإسناد ضعيف، وهذا خطأ بل إسناده جيد”، ثم قال “وكأن النووي قلد في ذلك ابن الصلاح” ومن الأمثلة التي تعقب فيها ابن حجر العسقلاني ابن الصلاح حين أنكر الغزالي وشيخع إمام الحرمين فقال” أنكر ابن الصلاح على الغزالي لفظ الخاصرة”
رحم الله أبا حامد، وكان عملاقا من عمالق الدهر، أحيا الدين وقواه بهمته وقريحته إلا أنه تلبى نداء الله قبل أن يصير ثمرة يانعة، شخصية تخلدت في التاريخ عبر مصنفاته ومؤلفاته، جزاك الله يا أبا حامد كنت حجة وكنت مجددا.
نهاية المطاف
الإمام الغزالي رغم ما أصابه من الانتقادات العنيفة من جانب العلماء المرموقين في علم الحديث وغيره، كان من أبرز الشخصيات الإسلامية ساير مع متطلبات العصر حتى صنف عديدا حسب ما يرمي إليه الدهر ويلهمه، ومن الواضح أن عصره كان مرتبكا مشتبكا ضمن القضيات من جانب السلطنة ومن جانب المعتقدات، حتى دفعه إلى توجيه عنايته بهذه المشكلات فلم يوفق بوقت واف لتحديق فكرته نحو الحديث الشريف.
ومن اليقين أن حياة الإمام الغزالي عبرت ثلاث مراحل بارزة وهي مرحلة الفقة وأصوله ومرحلة الفلسفة والكلام ومرحلة التصوف، وفي مرحلة التصوف اندفعت إليه المعارضة شديدة، وكل مخالفة أو معارضة كانت في بودقة واحدة بأن الغزالي يتمشى في نهج المكي أو الحاسبي وأنه مصبوغ بصبغة المجازفة وغلو التصوف، ولكن الفحص يبين أنه تعلم التصوف بعدما تعمق في الفقه وأصوله، فلا تصح هذه المقارنة الواهية لأن الغزالي اجتمع فيه الفقيه والمتصوف ولأجله اتسع نطاق شهرة كتابه”إحياء علوم الدين”.
أما من جانب القرآن والحديث فإنه كان مزجي البضاعة كما اعترفه من عند نفسه، ولكنه ما أهمله وما أعرض عنه بل كان مطلعا عليه ضمن مؤلفاته في أصول الفقه حسب قدره، وعمره كان قصيرا جدا، ومن الحقيقة أن أصول الفقه وأصول الحديث يتعانقان، حتى أبرز فيها آراء تضاهي آراء المحدثين، ومن جوانب هذه الحياة القصيرة، هذه القصور أو التساهل مغفور عنه حيث قام بخدمات تبارز بها كل من ينتقده.