– فيلا بوراتو عبد الكبير –
يحتوي الكتاب مجموعة أوراق قُدّمت في مؤتمرين أحدهما إنعقد في الجامعة الإسلامية بشانتابورام كيرالا والثاني إنعقد في الدوحة تحت إشراف مركز الجالية الهندية، شارك فيهما عدد من الباحثين للمناقشة في علوم الحديث. كما أشير في مقدمة الكتاب هو بحر يتسع زهاء 65 نوعا من المواضيع في رأي العلامة ابن صلاح، و93 نوعا في رأي الإمام السيوطي. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وداعه الأمة ” تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما”. هكذا أصبحت السنة المصدر الثاني للتشريع في الإسلام. لأن رسول الله ص لم يكن مجرد ساعي البريد يقوم بتسليم مواد البريد لأصحابها ثم يذهب في طريقه دون أن يلتفت إليهم. بل كان معلّما بُعث لتزكية أمته وتربيتهم على أساس التعليمات الربانية. كان الرسول هو البطل في المعركة بين الحق والباطل. وأقوال البطل وأعماله لأي حركة تُحفظ لكي يتبادلها نشطاء الحركة جيلا بعد جيل. فإذَنْ السنة بمثابة تاريخ الحركة الإسلامية الذي يُحيي ويُخلد ذكرى بطل الحركة في ضمير الزمان، وإنكار السنة محاولة لمحو ذلك البطل من ذاكرة الزمان. فإذا اختُطِف البطل من على خشبة مسرح التاريخ فلا وجود لحركته. وهو محاولة لاغتيال التاريخ ليس إلا. ولذلك إهتمت الأمة بالسنة والأحاديث النبوية بالغ الاهتمام منذ أوائل تاريخ الإسلام حتى وقتنا الحاضر حفظا وشرحا وتبادلا، ووضعوا لها قواعد مضبوطة ومعايير ثابتة محكا لمصداقيتها وقابليتها. وقد بذل سلفنا جهودا جبارا في هذا المجال. منهم من كرس حياتهم لجمع الأحاديث وسافروا من أقصى القارات إلى أقصاها، ومنهم من تابعوا سيرة الرواة للتأكد من مصداقيتهم وسجلوها في كتب متعددة، ومنهم من شرحوا كتب الأحاديث شرحا وافيا. ويكفي شاهدا لذلك المجلدات الضخمة التي كتبها العلامة ابن حجر العسقلاني شرحا للبخاري بعنوان فتح الباري الذي قال عنه الإمام الشوكاني ” لا هجرة بعد الفتح ” حين طلب منه الناس لكتابة شرح للبخاري. وقد خصّص العسقلاني مجلدا بحجم كبيرتتجاوز صفحاته أكثر من 500 صفحة باسم ” هدي الساري ” يكتب في بدايته:
“فإن أول ما صرفت فيه نفائس الأيام، وأعلى ما خص بمزيد الاهتمام، الاشتغال بالعلوم الشرعية الملتقاة عن خير البرية. ولا يرتاب عاقل في أن مدارها على كتاب الله المقتفى، وسنة نبيه المصطفى، وأن باقي العلوم إما آلات لفهمها……. وقد رأيت الإمام البخاري في جامعه قد تصدى للاقتباس من أنوارهما البهية تقريرا واستنباطا………… وقد استخرت الله تعالى في أن أضم إليه نبذا شارحة لفوائده موضحة لمقاصده…… وأقدم بين يدي ذلك كله مقدمة في تبيين قواعده وتزيين فرائده…………”
أما عن دقة الإمام البخاري البالغة وقوة حفطه الحادة في رواية الأحاديث النبوية فشواهدها كثيرة وعجيبة نجدها في الفصل الأخير من مقدمة العسقلاني، منها ما روى أحمد بن الحسن الرازي عن أبي أحمد أنه سمع عدة من مشائخ بغداد يقولون إن محمد بن إسماعيل البخاري قدِم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلّبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوها إلى عشرة أنفس لكل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا عليه الموعد للمجلس فحضروا وحضر جماعة من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ والبخاري يقول لا أعرفه، وكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون فَهِم الرجل، ….ثم انتدب رجل من العشرة أيضا فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدا واحدا حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه. ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من إلقاء الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على: لا أعرفه. فلما علم أنهم قد فرغوا التفت ألى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني فقلت كذا وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى على تمام العشرة فرد كلّ متن إلى إسناده وكلّ إسناد إلى متنه وفعل بلآخرين مثل ذلك فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.”
هذه الدقة والأمانة والثقة في رواية الأخبار هل نستطيع أن نجد لها مثيلا في تاريخ الأمم؟ رغم ذلك كله يأتي بعد قرون قزم يستهينون جهود هؤلاء العمالقة وينكرون مكانة السنة في الشريعة الإسلامية ليتمكن لهم من تفسير القرآن على هواهم. وفي القرن الماضي كان هناك كُتّاب تأثروا بمؤلفات عدد من المستشرقين فأثاروا شبهات حول السنة النبوية. فتقدم علماء كأمثال الدكتور مصطفى السباعي بالرد عليهم بكتب قيمة مثل “السنة ومكانتها في الشريعة الإسلامية”. وفي تلك الحقبة كانت تلك الهجوم على السنة منحصرة وسط بعض الكتاب لا تتجاوز إلى عامة الناس. أما الآن قد زاد مدى رؤيتها حيث اتسعت شبكة مواقع التواصل الاجتماعي. ونتيجة لذلك وقعت شريحة كبيرة من الجيل الناشئ في فكّ “العصرانين”. وعلى ضوء هذه الخلفية يصدر هذا الكتاب ليقود الجيل الجديد إلى مناهل السنة الصافية. يبدأ الكتاب بموضوع عن منهج الدراسة في الحديث للدكتور حمزة عبد الله المليباري، رئيس قسم أصول الدين بكلية الدراسات الاسلامية والعربي بدبي وصاحب عدد من الدراسات في الحديث النبوي مثل “الحديث المعلول – قواعد وضوابط، و نظرات جديدة في علوم الحديث، والموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الآحاديث وتعليلها. يشير الكاتب في مقاله إلى أمرين لا يعتني بهما عموما الباحثون الذين يعتمدون المنهج التقليدي في نقد وتقييم الحديث، أوّلهما أن المحققين القدماء كانت طريقتهم الاعتماد على المقارنة بين الإسناد ومتون الأحاديث المروية، لم تكن هذه الطريقة منهجا مبنيا على فحص أبعاد الإسناد العلمية. وثانيهما أن مجموعات الأحاديث التي تحتوي سنة النبي كانت محفوظة من تدليس الرواة في عصر الرواية ذاتها، إنما تحقق ذلك من خلال الفحوص الدقيقة التي قام بها العلماء المتخصصون لسلسلة سند الأحاديث ليس بكون روايتها قد سجلت في دفتي الكتب. ولذلك قال الإمام ابن المبارك إن الإسناد جزء من الدين. وبعد ذلك يذهب الكاتب إلى تفاصيل هذين الأمرين ويشرح مصطلحات الحديث مثل العلل والشاذ والمصحّف والموضوع والموصول والمنقطع وغيرها. يُلقي الكاتب الضوء على جوانب ركز عليها القدماء وتجاهل عنها المعاصرون من الدارسين.
وفي الورقة الثانية تحت عنوان ” مقدمة لدراسة الحديث ” التي قدمها الدكتور بهاء الدين الهُدوي ينقل التعريف المشهور عن الحديث عند أهل السنة والجماعة، ثم يشير إلى الاختلاف في تعريف الحديث بين علماء أصول الحديث والفقهاء، لأن صفات النبي الخلقية لا تأتي في حدود تعريف الحديث في نظر الفقهاء، والسبب في ذلك يعود إلى حيثية النبي في نظر الفقهاء وغيرهم. الفقهاء ينظرون إليه شارعا بينما الآخرون ينظرون إليه هاديا أيضا. وتبحث الورقة الفرق بين الحديث والخبر والأثر تفصيلا، وتشرح المراحل الأربع التي تم فيها تدوين الأحاديث، المرحلة الأولى تبدأ من السنة الأولى من الهجرة إلى السنة 73 الهجرية. ومما تم تدوينه في هاذه المرحلة ما سجَّل عمرو بن العاص و”كتاب الصدقات” وصحيفة عمرو بن حمزة التي تحتوي تعليمات النبي حين عُين حاكما في اليمن وصحيفة علي التي تتضمن أحكام الزكاة وعقوبات الجريمات. والمرحلة الثانية هي عهد التابعين الذي يبدأ من سنة 70 هـ وينتهي في سنة 120 هـ. وفي هذه المرحلة أصدر الخليفة عمر بن عبد العزيز أمره لجمع الأحاديث. والمرحلة الثالثة من 120 إلى 150هـ كانت مرحلة التصنيف. وفي هذه المرحلة صنف الإمام مالك الموطأ عام 143هـ. أما المرحلة الرابعة ففيها ظهرت الكتب الموسوعية في الحديث وكتب الجرح والتعديل وتأليفات في علم مصطلحات الحديث. يذكر الكاتب في مقاله عددا من الكتب التي صُنّفت في الصحاح والموضوعات والعلل كما يلقي الضوء على الفرق بين الآحاد والمتواتر.
وفي مقال عبد الله حسن حول حجية السنة يستدل لها بكثير من الآيات القرآنية مثل “يأيها الناس أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيئ فردوه إلى الله والرسول…(النساء 59). ولنفس الكاتب مقال آخر يطالب فيه الباحثين الجدد في الأحاديث النبوية أن يصنفوا جامعا جديدا مبنيا على مواضيع يحتوي كلّ حديث صحيح وَرَد في كل واحد من المواضيع للتفادي عن الإلتباس والإرباك بشان بعض الأحاديث. مثال ذلك حديث رواه البخاري عن أبي أمامة الباهلي أنه رأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال: سمعت النبي ص يقول” لا يدخل هذا بيت قوم إلاّ أدخله الله الذلّ”. ويشير إلى أن هذا الحديث يخالف القرآن وكثيرا من الأحاديث بما فيه ماروى البخاري ذاته مع مسلم عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله ص “ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلاّ كان له به صدقة”. ويُؤوّل الحديث المذكور أوّلا أنْ قد له خلفية لم يروها الراوي وأنه قد تكون عن القاعدين عن الجهاد الذين قد شغلتهم الزراعة. وينقل ما رواه أبو داود عن إبن عمر بهذا الصدد أنه قال: سمعت رسول الله ص يقول: إذا تبايعتم بالعينة واتخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم”. وهكذا يقوم بفحص بعض الأحاديث على ضوء القرآن ويرفض ما يخالف النص القرآني ولو كان سنده صحيحا. ولكن الغريب أن صاحب هذا الموقف حين يصل إلى الحديث الذي رواه البخاري عن سحر يهودي تأثر به النبي ص ينقلب موقفه رأسا على عقب ويحاول أن يُثبّت أن السحرحقيقة بدليل الآية ” فإذا حبالهم وعصيّهم خيل إليه بسحرهم أنها تسعى فاوجس في نفسه خيفة موسى”(طه 66 -67). وما يسمى هنا سحرا ليس إلاّ خفة يد يمكن أن يملكها أي واحد من خلال الممارسة ، وقد كشف عن سرّه العاهل المغربي الراحل حسن في إحدى دروسه الرمضانية أن هذا كان نتيجة من استعمال الزئبق على مواد. والفرق بين تأثير خفة اليد وتأثير السحر الأسود واضح. وكان إبن خلدون أيضا يعتقد في حقيقة السحر، ولكنه كبوة جواد مثل زلات المؤرخ هيرودوت كما أشار إليه ساطح الحصري في دراسته المستفيضة عن إبن خلدون وأفكاره. وكان من المستغرب أن المفكر الإسلامي المودودي كتب ضميمة طويلة في تفسير المعوذتين تبريرا لحديث البخاري بينما كان المودودي هو ذاته قد تحفظ عن حديث آخر رواه البخاري نفسه حول النبي سليمان أنه ذات ليلة طاف تسعا وتسعين من أزواجه، لأنه مستحيل زمنيا. وهؤلاء جميعا يجعلون تأثير السحر بمثابة الأمراض، ولكنه مرض نفساني، والجنون أيضا من الآمراض النفسية، فهل يجوز أن يُنسب الجنون إلى النبي؟ وقد اتخذ الكاتب الإسلامي سيد قطب موقفا معقولا في الموضوع حيث كتب في تفسير السورتين المذكورتين في “ظلال القرآن”:
“والسحر لا يغير عن طبيعة الأشياء …….ولكن يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر، وهذا هو السحر كما يصوره القرآن في قصة موسى عيله السلام …… وقد وردت روايات بعضها صحيح ولكنه غير متواتر- أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عيه وسلم في المدينة…..قيل أياما وقيل شهرا حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن …. وحتى كان يُخيَّل إليه أنه فعل الشيئ ولم يفعله….. وأن السورتين (المعوذتين) نزلتا رقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استحضر السحر المقصود – كما أخبر في رؤياه – وقرأ السورتين انحلت العُقَد، وذهب عنه السوء. ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله وكل قول من أقواله سنة وشريعة، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول أنه مسحور، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك. ومن ثم نستبعد هذه الروايات، وأحاديث الآحاد لا يُؤخَذ بها في أمر العقيدة، والمرجع هو القرآن، والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد، وهذه الروايات ليست من المتواتر فضلا عن أن هاتين السورتين نزلتا في مكة هو الراجح مما يوهن أساس الروايات الأخرى” (في ظلال القرآن المجلد الثامن، الصفحة 294 ، 1967). لا شك أن جامع البخاري أصح كتب الحديث، ولكن ليس هناك رجل صائب بالمطلق ولا مخطئ بالمطلق. وقد تعرض البخاري لانتقاد المحدث الدارقطني في بعض الأحاديث كما أشار إليه العسقلاني في مقدمة فتح الباري. وفي مقال كتبه المولوي محمد سليم في هذا الكتاب وهو يسلط الضوء على تاريخ إنكار السنة في الماضي والحاضر قد رأى أن حديث السحر في البخاري غير قابل للاعتماد دراية لأنه يعارض النص القرآني.
ومن أهم العناوين التي تأتي في الكتاب تاريخ أمهات كتب الأحاديث، وكيفية التعامل مع الأحاديث الضعيفة، والمنهج في الجرح والتعديل، والرد على التهم المنسوبة إلى أبي هريرة، ومساهمات الاستاذين الجليلين ابو الأعلى المودودي ومصطفي السباعي في الدفاع عن السنة، واهتمام الأمة في حفظ الأحاديث في العهد النبوي وفي القرون التالية. والكتاب لم يتم تحريره على وجهه المطلوب وإلاّ لما كان تتكرر معلومات في أكثر من واحد من المقالات مثل تعريف السنة وتاريخ إنكار السنة والآيات القرأنية التي تدل على أهمية السنة ومكانتها في الشريعة.
عنوان الكتاب: علوم الحديث
تحرير: أم. أس. عبد الرزاق
اللغة: مالايالام
عدد الصفحات: 254
سنة النشر: 2020
الناشر: مركز الجاليات الهندية، الدوحة، قطر
التوزيع: دار النشر الإسلامي، كوزيكود، كيرالا