– فيلابوراتو عبد الكبير –
كان فايكام محمد بشير من رواد الروائيين الحديثين في مرحلة الأدب النهضوية في اللغة المالايالامية في كيرالا، الولاية التي تقع في اقصى جنوب الهند. وقد مضى أكثر من عقدين بعد أن فارق الدنيا غير أن أعماله الإبداعية لا تزال تجذب القراء إليها، حتى الآن هي في أعلى قائمة المبيعات في سوق الكتب. لأنها خلافا لأعمال معاصريه الآخرين تتمتع بنكهة الحداثة الأبدية والقيمة الجمالية المتميزة.
كان بيته بمثابة كعبة يحج إليها الناس. كانوا يرتادون إليه ليقضوا فيه قليلا من الوقت يدردشون معه كأنهم يتبركون به. وكان فيهم كبار الأدباء وشخصيات مرموقة في المجتمع حتى العاديون جدا. كانت حول شخصيته دائرة جذابة تجر إليها شريحة كبيرة من الناس. كان هذا الروائي متعارفا لدى هذا الكاتب منذ أشرق وجدانه بنور الحروف. ولكن اللقاء معه مباشرا إنما حدث بعد فترة طويلة حين باشر العمل صحافيا في مجلة “برابودهانام”(الدعوة). كان ذلك في أوائل السبعينات. ومحمد بشير أيضا إنما يتصل بمجلة “برابودهانام” قريبا من هذا العهد الذي حالف حظ المجلة بنشر أول لقاء معه. وبعد ذلك جمعتني مع بشير ظروف شتى. كلما اقتربْتُ من هذه الشخصية العظيمة المضاءة بدأ أن أحسست جاذبيتها أكثر فأكثر. وفي تلك الفترة قررنا إصدار عدد خاص من مجلتنا يحتوي دراسات جادة حول القرآن المجيد. فطلبنا من محمد بشير مقالا يختص بالموضوع. جاءنا الرد في صورة رسالة طويلة يشرح فيها لحظات من حياته الحافلة التي لم تجد النور حتى ذلك الوقت. كتب فيها تفصيلا عن لقائه مع مترجم القرآن الكريم باللغة الانجليزية العلامة يوسف علي والكاتب الكبير محمد أسد النمساوي ( ليوبولد فيس السابق) مؤلف “الطريق إلى مكة”، وذلك حين كان يقضي ضيفا في بيت الشيخ عبد الله السياسي المناضل الراحل الكبير في ولاية كشمير. يبدو أن الكشف عن الخلفيات الثقافية من صفحات حياته الخاصة إنما يحدث أولا كان في هذه الرسالة. وثمة رسالة أخرى تشير إلى هذا الجانب، تلك كانت رسالة أرسلها قُبيل هذه الرسالة إلى صديقه الكاتب فاكام عبد القادر حين أصدر هذا الأخير مجلة باسم “توليكا”(القلم). كان بشير في تلك الفترة مشغولا في إعداد ذكرياته. لا يستطيع أحد يريد دراسة العناصر الثقافية خلف أعمال بشير الإبداعية أن يعرض عن الكتاب الذي سجل فيه هذه الذكريات. عندما صدرت هذه الذكريات ضمّن فيها تجاربه المذكورة التي وقعت في كشمير بالإضافة إلى مقال كامل منقول من كتاب”What Happened In History” لـ”جوردان ستشيلد” (Gordon Child) الذي يتناول موضوع القرآن والذي نشرناه في عدد مجلتنا الخاص بذلك الموضوع .
وهذا إن يدل على شيئ إنما يدل على أن نور القرآن كان يغمر أعماق قلبه حتى في “زمن كانت حياته فيه تفوح بعبير العشق في عنفوان شبابه”(عبارة منقولة من إحدى قصصه). حاول قدر وسعه أن يبث بصيصا من القيم القرآنية داخل أسرته كما في فضاء المجتمع حوله. أثناء إحدى اللقاءات معه طلب مني للقيام بالترتيبات اللازمة لإلحاق بنته الوحيدة “شاهينا” في القسم الداخلي في مدرسة بنات إسلامية تقع بعيدة من منطقه. كان هناك مطوعا خاصا عيّنه بشير في بيته لتعليم أولاده الدينيات. ولكن بشيرا كان غير راض عنه حيث كان متخلفا وغير عصريا يُدرِّس أولاده ترهات وخزعبلات باسم الدين. فطلب منه ان يشتري بعض الكتب الدراسية التي نشرها المجلس التعليمي التابع للجماعة الإسلامية في كيرالا.
وثمة شواهد تظهر علاقة بشير العميقة مع القرآن الكريم. وفي سبعينات القرن الماضي نشرت دار الحسنات في رامبور ترجمة معاني القرآن بكلتا اللغتي الهندية والانجليزية في مجلد واحد بثمن زهيد يبلغ 13 روبية فقط. فاشترى منها بشير 15 نسخة وخصص منها بضعة نسخة ليهديها لأصدقائه وحوّل إلينا المتبقية لتوزعيها على مكتبات عامة. وكان ذلك إيصالَ ثوابٍ إلى روح والدته التي توفيت آن ذاك. وطالبَنا أن نُوزِّعها بتلك النية. وقد ورد ذكر ترجمة معاني القرآن تلك في قصته المعنون بـ “ورقة مائة روبية”.
كان بشير يعتز بنفسه جدا. عندما نزوره كنا نهدى إليه كتبا إسلامية صدرت من دار نشرنا حديثا، لا نقبل منه ثمنها. ذات مرة حوّل إلينا كمّا من الكتب من مكتبته الخاصة هدية لمكتبة مجلتنا. هكذا أدى دَينه فيما استلم منا من الكتب مجانا. هذه الكرامة وعزة النفس كانتا رفيقتيه المتلازمتين طوال حياته الحافلة. وفي ذكريات الكاتبة “روسي طوماس” عن والده أم. بي. بال(Paul) أحد أعمدة النقد الأدبي في لغة مالايالام واقعة مثل هذه الواقعة. كان بال ممن عرف بشيرا وأعماله الإبداعية بصميم قلبه. وهو الذي قدم باكورة رواياته “صديقة الصبا” واصفا إياها “صفحة ممزقة من الحياة دامية هوامشها”. كان يعتبره كعضو من أعضاء أسرته. ويراعي بعناية بالغة في أن لا يمس شرفه إذا اقتضت ظروف إلى مساعدته. ولذلك حين وفّر لبشير سكنا في معهده التعليمي عندما اضطر أول الذكر مغادرة بيته المستأجر لعدم تمكنه من سداد الإيجار عيّنه “بال” في وظيفة مراقب طلاب في ذاك المعهد. لأن “بال” كان يعرف أن بشيرا لا يحب أن يسكن فيه مجانا. كان بشير يرتاد إلى بيت بال يوميا. كانت “روسي” إبنة بال طفلة في ذاك الحين يتلاعب معها بشير، يُخرِج من جيبه فلوسا ويتباها كأنه غني. فيطلب منه الأطفال تلك النقود ويعطيها إياهم بدون تردد. وذات مرة لما رأى “بال” عند أولاده فلوسا وفَهِم أن مصدرها بشير استاء من تصرفاتهم. فكان رد الأولاد أن بشيرا قد صرح لهم أنه يوجد لديه وافر من المال. فقال لهم “بال”: هل تعرفون أن بشيرا قد لم يتغذ اليوم، هل تدرون كم فخور هذا المسلم؟
هكذا كان بشير. مُعتزّ بنفسه حتى في حرمانه وغني في فقره، يجوع بعد أن تبرع ما لديه لأطفال ليرى ابتساما على شفاهم. استضاف الناسَ داخل قلبه الواسع بدون أي تمّيز بين الصغار والكبار، الحال كذا كان بعد أن تجاوز الظروفَ الصعبة وأصبحت الحياة على قدرما من المستوى الجيد. لما امتلأ جيبه من الفلوس لم يحفظ منها شيأ في قلبه كما نصح الشيخ عبد القادر الجيلاني. كان قد تذوق الجوع المر كما لاقى الفقر المدقع. ولذالك يسأل أولا كل من يزوره هل أكلت شيأ؟ كان هذا هو السؤال الذي استقبله عندما قام بزيارة محمد عبد الرحمن القيادي في حركة نضال استقلال البلاد. وقاس عظمة تلك الشخصية بذلك السؤال الوحيد. حين استقرت حياته في بيته في “بيفور” ارتحلت نفسه الواسعة يبحث أصدقاءه القدماء وتقدم لمساعدتهم دون أن يجرح شعور كرامتهم. ذات مرة جاء بشير في مقر مجلتنا عند ظهيرة وبيده نسخة مخطوطة من كتاب صديقه الكاتب الأديب فاكام عبد القادر. كان موضوع الكتاب “ألإنسان”. طلب منا بشير للقيام اللازم لنشر الكتاب. بدأنا الترتيبات بطباعته، ولكن حالت دون ذلك حالة الطوارئ التي أعلنتها إنديرا الغاندي، أغلقت السلطات مقر مجلتنا ومطابعنا. فاعتُقِل “إنسان” عبد القادر مع آلاف من المعتقلينالسياسيين والنشطاء. وبعد سنتين لما رُفِعت حالة الطوارئ وعُدنا إلى ساحة العمل من جديد صدر الكتاب، ولكن للأسف خلال هذه الفترة كان المؤلف قد انتقل إلى رفيقه الأعلى. فحوّلنا مكافأة الكتاب إلى أسرة عبد القادر بعد أن اتصلنا ببشير.
كلما نقترب من بشير تكتشف لنا عظمة شخصيته وتواضعه الجم أزيد فأزيد. كان استثناءا من كثير من الكتاب في شأن التناقض الذي يوجد عموما بين مُؤلَّفاتهم وحياتهم الخاصة. يعتني بشير بالرد على جميع من يراسله مهما كان ولو بسطرين. علامات الشعور الثقافي العالي تحسونها بارزة في سلوكه معكم تماما. يُدهشِنا بهذا السلوك المتميز كما يُدهِشنا بالرسم بكلمات تتجلى فيها أبعاد الجماليات بأكمل وجهها. لما عقدت أكادمية الآداب حفلة في بيته بمنابة منحه الزمالة فيها أرسل بشير دعوة إلىجميع أصدقائه للمشاركة في الحفلة. فلم ينس ضم مؤذن المسجد القريب من بيته في تلك الدعوة. وقد لم يقرآ هذا الرجل أي كتاب لبشير. لكن بشيرا تمنى أن يشاركه في فرحته بهذه المناسبة. هذه صفة من صفاته التي لا نستطيع أن نتوقعها عموما من غيره من الُكتّاب.
كان بشير يبتعد من عادات سيئة التي توجد عموما في الكتّاب الآخرين. ترَكَ شُربَ الخمر قبل فترة طويلة بعد أن كان مدمنا به. لم يعد إليه أبدا بعد أن نجى من قبضته الشيطانية حتى في ظروف تغريه إليه مرة أخرى. ذات يوم زاره بعض أصدقائه القدامى بقنينات خمور ذات جودة عالية ليحتفلوا بها في بيته وهم لا يعرفون أن بشيرا قد ترك تلك العادة السيئة بتاتا. لم يمنعوهم منها بشير ولكن ابتعد من مشاركتهم فيها. وفي الصباح لما غادروا البيت وجد زجاجة من سكوتش فيسكي لم تُفتح. صب ما فيها تحت شجرة نارجيل في ضيعته.
كان مؤمنا بالله ويتدين بدين المعروف. اعتقدَ أن المعروف هو ذاته الإسلام. دين جد أجدادنا آدم. وبما أن دين آدم هي الإسلام ينظر إليه أنها ليست بدين جديدة. أن تكون مسلما معناه أن تعود إلى صفة “آدميتك” أي استعادة “إنسانيتك” الكامنة داخل نفسك.” حيث أنني مسلم فالخمر علي حرام”. هكذا يشرح موقفه من شرب الخمر. حاول أن يزيل الشبهات المنتشرة في المجتمع حول الإسلام على طريقته الخاصة. خصص صفحات عديدة في مجموعة “ذكرياته” لهذا الغرض. اعتنى بإيصال كتب اسلامية إلى أيادي كثيرة بهذا الصدد. منها كتاب ” القرآن والإنجيل والعلم” للكاتب الفرنسي موريس بوكاي. لما نشر الشاعر المرموق يوسف علي كيشيري قصيدة حول معبد الهندوس “جوروفايور” والصنم الموجود داخله كلّفَنا أن نرسل إليه نسخة من ترجمة “حياة محمد” للدكتور محمد حسين الهيكل. ونتيجة لذلك كتب يوسف علي قصيدة يمدح فبه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
كان يراعي بدقة في استعمال الكلمات، يبتعد عن كلمات توحي بمدلولات تخالف المبادئ الإسلامية. وكذلك لا يتردد أن يعارض صريحا أي تصرفات تبدو له أنها تُشوِه وجه الإسلام الحضاري المشرق. كان مستاءا من الأحداث الدامية في جمهورية إيران بعد الثورة الإسلامية مثل المحاكمات الفورية واعدامات رجال المعارضة بينما كان في زمن ماض من أتباع “بهاجات سينغ” من قادة التيار الثورة المسلّحة في الحركة الاستقلالية. ليس غريبا أن لا يوافق على اسلام يرفع سيفا بتارا لإقامة العدل في البلاد بعد أن أرسى قارب حياته في بحار حب الصوفياء .إن تَحدثْناه حول هذه المواضيع يُدهِشنا بمعلوماته الوافرة في تاريخ الإسلام. عندما ناقشناه موضوع سياسة إيران أخذَنا إلى متاهات الفرق الإسلامية المختلفة من الخوارج والشيعة بما فيها الروافضة. خلافا لمن درس الإسلام من الكتب الإنجليزية تلفظ كلمة “الروافضة” باللغة الفصيحة بدون أي لكنة. حين تُوفي زعيم الطائفة الدروزية ومؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط عام 1977 نشرت جريدة في كيرالا مقالا يكشف عن علاقاته مع روحاني هندوسي بهدف إبراز عظمة الروحانية الهندوسية من خلاله، فكتب بشير رسالة فكاهية إلى تلك الجريدة تأخذ القراء إلى جذور طائفة الدروز ومؤسسها الملك الفاطمي الذي ادعى الألوهية. كان بشير يشير بذلك إلى أنه لا عجب في انجذاب جنبلاط إلى الروحانية الهندوسية حيث تشارك طائفة الدروز عقيدة الحلول التى تتبناها الديانة الهندوسية. اختتم بشير مقاله المذكور ضاحكا من تلك العقيدة المشتركة بين الطائفتين بقوله : فإلههم ليس الا “الها” مثلنا يخرج منه الضراط”.
كان بشير مُهتمّا بالتطورات في العالم الإسلامي. كان يطلب منا تزويده بعنوان الوسائل الإعلامية التي تنقل أخبار العالم الإسلامي، فوافيناه بعنوان مجلة Radiance الصادرة في دلهي. في الأسبوع التالي جاءتنا رسالته وهو يشتكي عن مستوى تلك المجلة واصفا إياها بأنها “غابة من أخطاء مطبعية”. وذاك الوقت كانت تصدر في لندن مجلة انجليزية فاخرة باسم Arabia the Muslim World يحررها الكاتب الإسلامي المشهور د. فتحي عثمان. لما عرّفناه على تلك المجلة استغرب سائلا “هل العالم الإسلامي منحصر في بلاد العرب؟ أليس هناك مسلم خارج بلاد العرب ؟” إن تصوره عن العالم الإسلامي يتجاوز الحدود الجغرافية ويتسع إلى الآفاق البعيدة.
إن تصور بشير عن الثقافة ليس تصورا ضيقا، تسامحَ جميع الثقافات مع تمسكه بهوية ثقافته وتراثه. عاش حياته الحافلة بالتعايش مع جميع الناس بصداقة واسعة تسع الكون. حقق المعروف في حياته وقلمه معا. بشير الذي يدين بدين الحب الذي يتبناها الصوفياء وجد تجليات الوحدة في التراث الإنسانية المشتركة بين جميع الديانات والثقافات. وقصته ” من التراث المسيحي ” خير دليل على هذه الرؤية. من خلال سلوك رجل مسيحي يكشف الكاتب عن زهو ذاك التراث العظيم. ويشير إلى أن الحقيقة قد يكون فوق مداركنا الظاهرة. وتوجد أيضا ملامح جمالبات هذه الرؤية في قصته “بهاجفات جيتا وأثداء”.
وجميع قصصه غنية بالتجارب الإنسانية المتنوعة. وكثير من الأشخاص فيها نراهم يخطون إلى مبنى الحكاية مباشرة من الحياة. حين يلمسهم يراع القاص السحري تدب إليهم الحياة ويبلغ جمال السرد قمة كماله. روعة الفن الراقي في نسيج سرده يقود القراء إلى عالم وجداني يتجاوز الحدود والأبعاد. فهناك تصل “كونهي باتوما” و”خروفها” في قصته “خروف كونهي باتوما” إلى أبعاد غير عادية بحيث تجعلهما خالدين في ذاكرة القراء. حتى رسائل بشير أيضا لها هذا الرونق الخاص حيث تُقرآ هي الأخرى باهتمام بالغ وفي نطاق واسع. لم يَكتب قصصا كثيرة في آخر أيامه. الرسائل الطويلة هي التي كانت إسهاماته الهامة في المرحلة الأخيرة من حياته. قرأ القراء روئع تلك الرسائل كما قرؤا قصصه ورواياته الجميلة حتى صار أسطورة حية في خلد الزمان. (مجلة نزوى العمانية، عدد 101 يناير 2020)