د.مجيب الرحمن، دكتور في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة جواهر لال نهرو ـ نيو دلهي
في زيارتي الأخيرة لمدينة «بتنا» عاصمة ولاية بيهار نزلتُ في دار ضيافة قريبة من إحدى أشهر المكتبات الهندية «مكتبة خدا بخش الشرقية العامة»، ولحسن حظِّي كنتُ برفقة عالم كبير من المدينة واسع الاطّلاع على تاريخ المدينة وتطورها العمراني والعلمي والثقافي، ومساهمة المسلمين في هذا التطور ولا سيّما في تطور علم الحديث، علماً أن أشهر المؤلفات الهندية في علم الحديث «عون المعبود شرح سنن أبي داود» قد ألّفه محمد شمس الحق الديانوي (1273 هـ-1329هـ)، المشهور بالعظيم آبادي (نسبة إلى «عظيم آباد» الاسم القديم لمدينة بتنا)، وقد أنجبت المدينة والمناطق المجاورة لها كقرية «دسنه» كبار الشخصيات العلمية والأدبية والفكرية في الهند، في الماضي القريب، كالعلامة سيد سليمان الندوي وكثيرين غيره.
المهم أنني اطلعت خلال حواراتي مع رفيقي الباحث على حكايات غريبة ومدهشة عن مؤسّس هذه المكتبة النادرة، مولوي خدا بخش خان (1842م-1908م)، وحبه العميق للعلم وتفانيه الاستثنائي لاقتناء المخطوطات النادرة الذي بلغ حد الجنون، وقد أوصى قبل موته بأن يدفن مع كتبه، فدفن في وسط المكتبة، وللناس فيما يعشقون مذاهب، ولا عشق أسمى من عشق العلم، ولا حب أنبل من حب الكتاب، وبالعلم وحده يرتقي الفرد وتنهض الأمم، كما نهض المسلمون في الماضي، وأهل الغرب في الحاضر، لقد آمن هذا العالم الفذ بأن الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب، لأن المرء يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه.
وللعلم، تُعد «مكتبة خدا بخش الشرقية العامة» من أرقى المكتبات الهندية إذ تحتضن 21 ألفاً من المخطوطات العربية والفارسية النادرة، ومئتَي وخمسين ألف كتاب، ورسومات نادرة من العهد التيموري، وافتتحت المكتبة رسمياً في أكتوبر 1891م، واعترافاً بقيمة المكتبة التاريخيّة والثقافيّة العظيمة أصدر البرلمان الهندي قانونا عام 1969م بمنح المكتبة مكانة «مؤسسة ذات أهمية قومية»، وهي الآن تحت إدارة وزارة الثَّقافة الهنديّة.
وسرح بي خيالي إلى ماضي المسلمين النيّر وحاضرهم المعتم، فالمكتبة – مع ثرائها الاستثنائي ـ تشكو من شدة الفقر لقلة الزائرين لها والمستفيدين منها رغم وقوعها في وسط المدينة، وفي منطقة مأهولة بالمسلمين، وشتّان ما بين عشق «خدا بخش» للعلم وغفلة مسلمي اليوم، وأثر ذلك على حياتهم.. فلن يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهذه سنة الله في الأرض لا لبْسَ فيها ولا غموض.
جريدة الرؤية