بقلم علي جابر بن عيسى
إننا في الحقيقة أمام كتاب غير عادي، بل أمام كتاب فذ في نوعيته، مستنهض في عباراته، تحفيزي في مضمونه. نحن اليوم أمام كتاب لا هو وليد يوم وليلة، ولا هو وليد شهر أو شهرين، ولا هو وليد سنة أو سنتين، بل هو نتيجة سنوات متوالية، وفترة من الزمن مكثفة بمطالعات متنوعة جمة، والتي قضاها العالم الجليل المشهور في تحقيقه المتقن، العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غده الحلبي الحنفي، المنتمي نسبه إلى سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، المتوفى سنة 1417ه، كتاب صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل.
هذا الكتاب -كما قال المؤلف في مقدمته- أزهار جميلة من الحدائق المتنوعة، والتي جمعها المؤلف في باقة، فزادها نورا على نور، وهذا مقتطفات تحكي الصبر على الشدائد من علماء دين الإسلام، والتي تستنهض همة طلبة العلم لتحمل المشاق في سلوك طريق العلم، واستصغار المصائب والمتاعب لإنشاء جيل من العلماء الأجلاء، جمعها عبد الفتاح أبو غده رفعا لهمة طلبة العلم وتحفيزا لهم في مكابدة المشاق ودخول الطرق الوعرة لانضمامهم في سلسلة العلماء ورثة الأنبياء.
قد قسم المؤلف هذا الكتاب إلى مقدمة وثمانية أبواب وخاتمة. الأبواب الثمانية فرقها على أساس نوعية الشدائد والمصائب التي لاقاها العلماء في سبيل طلب العلم.
الباب الأول من الكتاب والذي عبر عنه المؤلف بالجانب الأول، هو صفحات من أخبار العلماء في تحمل التعب والنصب في الرحلة وقطع المسافات الطويلة في طلب العلم، افتتح القول فيه بأب البشر آدم عليه السلام وأمر الله الرباني للملائكة بالسجود تعظيما لعلمه، وأتبعه بسيرة أحد أولي العزم من الرسل الذي قطع مسافات طويلة لأجل طلب العلم، سيرة سيدنا كليم الله موسى عليه السلام مع سيدنا خضر بكل التفاصيل التي أوضحها القرآن. ثم أتى بوقائع من تاريخ الصحابة والتابعين والعلماء القدماء الذين قضوا سنوات في مجرد الرحلة لطلب العلم لا في طلب العلم بالوجه العام بل في الرحلة له فقط، مشاة على الأقدام من المشارق إلى المغارب، وقد أسرد وقائعهم في قرابة ثمانين صفحة.
وفي الجانب الثاني أتى بأخبار العلماء في هجر النوم والراحة في سبيل طلب العلم، وأول ما أتى به في هذا الباب كلام يحيى بن أبي كثير: “لا يستطاع العلم براحة الجسد”، وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، ثم أسرد صفحات من تاريخ العلماء في هجر النوم بما فيها قول ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح: “كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة”، وقصة أسد بن الفرات المالكي الذي كان يحضر عند الشيخ محمد بن الحسن الشيباني الحنفي الدروس العامة طول اليوم، والدروس الخاصة له طول الليل، وما الأيام والليالي بالنسبة لهم إلا ساعات مختلفة تقضى في طلب العلم.
الجانب الثالث في أخبار الصبر على الفقر ومرارة العيش افتتحه بكلام ابن خلدون في مقدمته عن سبب قلة المال في أيدي العلماء، وأتبعه بكلام الإمام الشافعي الذي قال: “لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح”، وقد تكلم حوالي سبعين صفحة في أخبار فقر العلماء وصبرهم لشظف العيش.
ثم تكلم في الجانب الرابع عن أخبارهم في الجوع والعطش والتجرد حتى عن ثوب يستر البدن، وفي الجانب الخامس عن أخبار نفاد المال في سبيل العلم، في قرابة ثلاثين صفحة، وفي ضمنها بين المؤلف عن قصة نفسه عندما كان طالب علم في كلية الشريعة بجامعة الأزهر الشريف.
الجانب السادس مملوء بأخبار العلماء الذين أصيبوا بفقد مصنفاتهم، ومنهم من اختل عقله، فحجر عليه، بسبب فقدانه في أواخر أيامه لمصنفاته التي قضوا فيها حياته كلها.
الجانب السابع نبذة يسيرة من كتاب ’العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج‘ لنفس المؤلف الشيخ عبد الفتاح أبي غده، وقد أتى بتراجم للعلماء الأعلام الذين لم يتزوجوا طوال حياتهم إيثارا للعلم وخدمة للدين فقط.
الجانب الثامن يعالج أخبار العلماء في بذلهم المال الكثير لأجل طلب العلم، وقد أتى بقصة من باع داره التي يسكن فيها لأجل الحصول على بعض الكتب، وكانت الكتب أعز شيء لهم في حياتهم، وقد سطر تقريبا خمسين صفحة تحوي على قصص إنفاق المال الكثير للحصول على الكتب والعلم مع كون بعضهم معدمين لا يملكون شيئا.
وفي الختام زين المؤلف كتابه بخاتمة استخلص فيها خمسين لمحة مما تضمنه الكتاب بأكمله، ولم ينس المؤلف للإتيان بكلام جرير:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع.
فهذه الصفحات، لو قيل فيها: إنها دليل لسالك طريق العلم، لصار نقيصة في حقه، ولا يكون بمثابة شروى نقير في وصفه، بل هو دليل تحفيزي مستنهض لهمة طلبة العلم، وقد جمع في طياته أخبار عباقرة من سلف، قال عنهم الشاعر:
لولا عجائب صنع الله ما نبتت تلك الفضائل في لحم ولا عصب
جزى الله المؤلف وكل من ساعد في نشره على النموذج الرائع خير جزاء عن كل مستفيد منه