الاقتصاد الإسلامي وتطبيقه في الهند: العوائق والفرص لـ أتش عبد الرقيب

فيلابوراتو عبد الكبير

 الاقتصاد علم هامّ له دور كبير في مصير حياة الناس في العصر الحديث، وعلى المستوى العالمي حتى العهد القريب كان ثمة تياران متصارعان في الساحة الاقتصادية – تيار رئسمالي وتيار اشتراكي. قبل انهيار الكتلة السوفياتية كان التيار الاشتراكي يهيمن على ثلث العالم. كانت الإصلاحات الاشتراكية مثل الغاء الملكية الخاصة وتأميم البنوك السلاح القوي في يدي إنديرا غاندهي رئيسة حزب المؤتمر الحاكم آنذاك. ولكن بعد أفول الاتحاد السوفياتي وغياب الأفلاك التي كانت تدور حولها تغيرت صورة العالم تغيرا جذريا حيث فقدت الهتافات الاشتراكية بريقها أمام أعين الناس. وبعد توقيع أكثر الدول من العالم الثالث معاهدة “جات” (-GATT الإتفاقية العامة للتعريف الجمركية والتجارة ) وسباق العولمة وازدياد شدة قبضة تحكم البنك العالمي على الدول النامية غدت الخصخصة هي التوجه الحكومي الحالي في أغلب البلدان في العالم وخاصة في الهند. القطاع العام في الهند قد تقللت أهميتها بحيث احتلت مكانتها الشركات الخاصة العملاقة. ولو أن الهند دولة اشتراكية غير أن الاشتراكية لا تبقى الآن الّا في دفتي دستورها. حتى أن الأحزاب اليسارية الحاكمة في بعض الولايات الهندية اضطرت أن تعترف بهذه الواقعية بغسل أيديها من المبادئ الاشتراكية وبدأت بلا خجل أن تستند على عواتق الشركات الكبرى الخاصة في تنفيذ مشروعاتها. وعدد كبير من البنوك الخاصة عادت عافيتها  في المرحلة المتأخرة من تأميم البنوك في عهد إنديراغاندهي. فأين مكان الاقتصاد الإسلامي  والبنوك الإسلامية في الهند والحال هكذا؟

 الاقتصاد الإسلامي فكرة تبلورت في القرن الماضي تحت أكناف الحركات الإسلامية مستمدة مبادئه من القرآن والسنة ومن تراث المسلمين، يمكننا أن نجد جذورها في كتب مثل مقدمة إبن خلدون. ولقارة الهند قصب سبق في نشأة هذه الفكرة حيث ساهم العلامة المودودي في هذا المجال بمقالات وتحليلات عديدة في مجلته “ترجمان القرآن”، الصادرة إبان الحكومة البريطانية في الهند، يقارن فيها نظام الاشتراكية والرأسمالية مع ميزات نظام العدالة الاجتاعية في الإسلام، وفي الستينات القرن الماضي صدر كتابه الضخم حول الربا في جزئين يحلل فيه نظام البنوك التقليدية تحليلا دقيقا ويرسم الخطوط العريضة للبنوك الإسلامية البديلة وشركات التأمين الاسلامي بلغة العصر. وكان ممن ساهم في تعزيز فكرة الاقتصاد الاسلامي علميا في الهند د. نجاة الله الصديقي وكذا د. خورشد أحمد في باكستان من تلامذة الاستاذ المودودي اللذان حازا على جائزة الملك فيصل في مجال الاقتصاد الاسلامي، وفي العالم العربي صدر كتاب سيد قطب تحت عنوان “العدالة الاجتماعية”. وتلاه كثير من الكتب تتناول الموضوع وفي مقدمتها “إقتصادنا” للعلامة العراقي الشيعي باقر الصدر الذي وصفه الاقتصادي الإسلامي الذي تخرج من إحدى الجامعات الغربية د. منذر الكهف مرجعا قيما في مجال الاقتصاد الاسلامي. وفي عام 1968 انعقد مؤتمر في نيويورك تحت إشراف إتحاد الطلاب المسلمين في الولايات المتحدة وكانادا ليناقش القضايا المتعلقة بالاقتصاد الاسلامي حضره شباب من الباحثين في الجامعات الغربية ومشايخ متخصصين، منهم الدكتور عبد الحميد أبو سليمان الذي صار بعد ذلك مدير الجامعة الاسلامية العالمية في كوالالمبور، والدكتور أنس الزرقا الذي أعان في تأسيس مركز الاقتصاد الاسلامي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، والدكتورمحمد صقر الذي صار فيما بعد مدير جامعة غزة في فلسطين. ونجح المؤتمر بأبحاثه ومناقشاته، ونُشرتْ كل البحوث باسم اتحاد الطلاب المسلمين. وفي عام 1976 انعقد مؤتمر اقتصادي إسلامي ثاني في جامعة الملك عبد العزيز بتوصية من الندوة العالمية للشباب الإسلامي تقديرا لأهمية طرح النموذج الإسلامي في التعامل الاقتصادي. وكان من وراء تنظيمه الدكتور أحمد توتونجي. شارك فيه نخبة من الاقتصاديين الإسلاميين على مستوى العالم ومنهم الراحل الدكتور عيسى عبده من مصر، والدكتور محمد صقر خريج جامعة هارفلرد، والدكتور أنس مصطفى الزرقاء خريج جامعة بينسلفينيا، والدكتور محمود أبو السعود يرحمه الله من أوائل من كتب الخطوط العريضة في مجال الاقتصاد الإسلامي، وكذلك الدكتور نجاة الله الصديقي من الهند وغيرهم. واهتم منظموا المؤتمر قبل انطلاقة أعماله بإعداد مسح شامل  لأدبيات الاسلام الاقتصادية يحاولون استقصاء كل ما كُتب في تاريخ الاقتصاد الاسلامي في اللغات المختلفة التي تتقاطع مع الفكر الإسلامي – الإنجليزية والفارسية والأردية والتركية فضلا من العربية. فجمعوا مادة ضخمة ووضعوها بين ايدي المؤتمرين، وقد بهرهم هذا المجهود وكذا الفكرة، وأفادوا منها كثيرا.

الجهود المخلصة المبذولة مثل هذه غدت روحا دافقة ودافعة وقوة جامعة لحراك الاقتصاد الاسلامي حتى بدأت أن تأتي ثمارها في شكل بنوك إسلامية وشركات تأمين إسلامي في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي مما أدى إلى توجه البنوك التقليدية لفتح شبابيك خاصة لحسابات غير ربوية لجذب ودائع من شريحة كبيرة في المجتع الإسلامي الذين لا يحبون التعامل المالي المبني على الربا. هكذا أصبحت الفكرة التي كانت تعد من أحلام اليقظة حقيقة ملموسة. ولو كانت البنوك الغير الربوية بدأت كفكرة جادة في قارة الهند إلا أنها إنما تحققت في الدول الإسلامية. وفي الحقيقة إن جذور المصارف الإسلامية تعود إلى عام 1963 حين قام الدكتور أحمد النجار، رئيس الاتحاد البنوك الإسلامية السابق،  بتأسيس نظام إدخاري بإقليم الدقهيلة في مصر غير أنه كان بمثابة تمويل أصغر (Micro finance) لمساعدة الفلاحين وغيرهم من ذوي دخل محدود بتزويدهم بقروض حسنة وبتوفيرهم التسهيلات لادِّخار دخلهم الزهيد فيها. (وكان ذلك قبل قيام محمد يونس الحائز على جائزة نوبيل بتأسيس بنوك لتمويل أصغر في بنجلايش). وفي أوائل السبعينات كان قد قابل هذا الكاتب الأستاذَ أحمد النجار حين قام بزيارة في كيرالا في طريق عودته من بنجلاديش بعد مشاركة في إجتماع استشاري بمناسبة تأسيس بنك إسلامي هناك. وكان لا يحب أن يسمي النظام الذي قام بترتيبه في مصر بنكا في معناه الإصطلاحي. ترعرع هذا النظام في مصر على نطاق واسع ولكن الحكومة آنذاك شمت فيه السياسة حتى عرقلت دون توسعه فلم يلبث في البقاء مدة طويلة. وفي عام 1971 تم إنشاء مصرف ناصر الاجتماعي بالقاهرة يتصرف في مجال جمع وصرف الزكاة وتوفير القروض الحسنة ثم تأسس بنك التنمية الإسلامي في جدة عام 1975 وتلاه نفس العام مصرف دبي الإسلامي الذي قام بتأسيسه سعيد أحمد لوتاه الذي توفي في يونيو الماضي ثم سلسلة من مصرف فيصل الاسلامي في السودان عام 1977 وفي مصر عام 1978  وبيت التمويل الكويتي في نفس العام، وفي عام 1978 تم إنشاء المصرف الاسلامي الاستثماري الاردني ثم المصرف العربي الدولي عام 1979 ، وخلال الفترة الماضية حاولت مجموعة من الدول الاسلامية مثل السودان وباكستان وإيران لتحويل نظامها المصرفي بالكامل إلى النظام الإسلامي، حتى في بعض االدول الغربية تقدمت بنوك تقليدية لاختبار هذا النظام الجديد. ففي الوقت الذي ينكر فيه البعض وجود نظام إقتصادي إسلامي بالمعايير الاقتصادية المستقرة في الفكر الغربي، ويرى أنه حتى إذا وُجد سيكون اقتصاد تكية تقدم بعض الكُتاب في بلاد الغرب ليكشف عن الجوانب الإيجابية من هذه الظاهرة الجديدة، وفي مقالة كتبها الكاتب الأمريكي بيدهام في مجلة “الإكنوميست” وصف الاقتصاد الاسلامي اقتصادا فريدا يمكن للآخرين أن يجدوا فيه شيئا ثمينا، ويقول إن التصور الإسلامي للحياة الاقتصادية في غاية التميز وفي منتهى السمو الأخلاقي وليس أقل فعالية من أي شيئ قدّمه الغرب المادي المتهوّر. ويقول أيضا “لو عرف الاقتصاديون الغربيون المزيد عن القرآن، لفهموا قيمة الاقتصاد الإسلامي،” يقول ذلك في معرض رده على هنتينغتون، صاحب مقولة صراع الحضارات، ويرى بيدهام أن الشيئ يمكن أن يكتمل بنقيضه دن أن يلغيه. وقد أصبح الاقتصاد الاسلامي الآن مادة تدرس في بعض الجامعات.

خلال أزمة الرهن العقاري التي واجهها البنوك في أمريكا عام 2008 جرت مناقشات حثيثة عن ضرورة بحث عن بديل من البنوك التقليدية حيث صرح  رئيس منتدى الاقتصاد العالمي “بأننا الآن على شفى حفرة من الانهيار وإلاّ علينا ان نُبدل سياساتنا الحالية للتوصل إلى بديل سليم”  كما ينقله المؤلف في مقدمة هذا الكتاب، وفي هذا الصدد يشير أيضا إلى قول الخبير الزراعي الهندي المشهور على المستوى العالمي الدكتور “سوامي نادهان” الذي يفيد بأنه لو كانت الحكومة قد اهتمت بشأن بنوك اسلامية مبنية على نظام غير ربوي لما كان الفلاحون قد انتحروا بسبب أعباء ربوية في “فيداربها” في ولاية “ماهاراشترا”. ويطرح الكاتب السؤال على الجهات المختصة أنه إذا كانت المدن الكبيرة مثل لندن وباريس وطوكيو وهونكونغ وألمانيا وسويسرا قد أصبحت مراكز مالية إسلامية فما المانع من كون مدن مثل ممباي وكوشين كذلك؟ ويقول إن كثيرا من أصحاب الدخل المحدود يودعون الفائض لديهم في البنوك التقليدية لتضيف إلى رئسمالها ولكن الأثرياء هم الذين يستفيدون من هذه الأموال المتراكمة، وقد رأينا أن  كثيرا من أصحاب الشركات العملاقة لاذوا الفرار إلى خارج البلاد دون ان يسددواها حيث تم شطب قروضهم من سجلات البنك. وتُلاحظ الحقائق التي اكتشفتها “لجنة ساتشار”المكلّفة أيام حكومة مان موهان سينغ للتحقق عن أسباب تخلف المسلمين في المجال الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي ولتقديم مقترحات لحلها. وبموجب تقرير هذه اللجنة إن كثيرا من المناطق التي يكتظ فيها المسلمون لا توجد فيها بنوك لكي يستفيدوا منها. وفي جانب أخر المسلمون الذين يتعاملون مع البنوك التجارية يبتعدون أغلبهم من استلام فائدة ودائعهم، وبموجب تقرير من البنك الهندي توجد في البنوك بلايين متروكة في هذا الحساب.

كما كان في مصر وفي الهند أيضا بدأت فكرة البنك الاسلامي في شكل صناديق غير ربوية على مستوى تمويل أصغر لأهداف محددة مثل توفير القروض الحسنة للمحتاجين على رهن الذهب. وكانت هذه الصناديق ضمن المشروعات التي تبنتها فروع الحركة الاسلامية في الهند محليا لتوسيع قاعدتها الشعبية، وكانت هناك تقارير أخبارية تفيد بأن بعض السيخ في شمال الهند جذبتهم هذه المشروعات فبدؤوا تنفيذها لرفع مستوى حياة الفقراء منهم. ولكن تحويل هذه الصناديق إلى نظام بنوك تجارية حديثة أو شركات استثمارية لم يتمكن من تحقيقه بسبب العوائق القانونية الموجودة. القوانيين الحالية لا تسمح تشغيل بنوك أوشركات تأمين أو شركات استثمارية الاّ إذا كانت مبنية على الربا. وقد خصص المؤلف فصولا في هذا الكتاب ليشرح الجهود الجهيدة التي بُذِلت في سبيل إزالة العوائق القانونية أمام تشكيل بنوك وشركات تأمين واستثمارات مبنية على مبادئ غير ربوية مشيرا إلى نماذج تعمل جيدة ومؤثرة جدا في بعض الدول الغربية. وكان للمركز الهندي للتمويل الإسلامي في نيو دلهي الذي هو أمينه العام والذي تم تأسيسه لرفع مستوى حياة المسلمين في الهند دور كبير في الفاة نظر الجهات الرسمية إلى ضرورة تأسيس البنوك الإسلامية. ويُلاحظ أن المؤلف تاجر ناجح ذو خبرة في صناعة الجلود وماهر على مستوى عال في تكنولوجية الجلود. منذ أكثر من عقدين يتردد إلى مكاتيب وزارة المالية والبنك الهندي الاحتياطي لكي يتم تعديل القوانين المانعة من البنوك الاسلامية في البلاد حتى يتمكن من فتح شبابيك إسلامية في البنوك التجارية. وقد ناقش هذا الموضوع مع كبار المسؤولين ليُقنِعهم ضرورة هذه الإجراءات. ونتيجة لمساعيه الحميدة اللجنة العليا للتخطيط برئاسة “راجهو رام راجان”، محافظ البنك الاحتياطي السابق، أدرج توصيتها لفتح البنوك الإسلامية ضمن مقترحاتها المقدمة للحكومة المركزية. وكذلك قدم الكاتب  عريضة أمام اللجنة المختارة البرلمانية لتعديل قانون التأمين يشرح فيها فوائد التكافل الإسلامي. ولكن للأسف كل المقترحات أصبحت متروكة في الثلاجة دون أن تُتخذ إجرءات نحو تطبيقها.

 لما اتخذت حكومة كيرالا اليسارية قرارها لتشكيل شركة استثمارية باسم البركة للخدمات المالية رفع النائب البرلماني من حزب بي جيه بي الحاكم “سوبراهمانيا سوامي” دعوى ضده إلى المحكمة العليا في ولاية كيرالا. وادّعى أنها شركة اسلامية وقيام الحكومة بتشكيل شركة مبنية على مبادئ الشريعة ضد مبادئ الدستور العلماني، حين ذاك لعب مؤلف هذا الكتاب وراء الكواليس دورا مهما للدفاع عن القضية بتزويد المحامين بمعلومات كافية عن طبيعة المؤسسات المالية التي تعمل على مبادئ الشريعة، وأخيرا رفضت المحكمة دعوى سوامي. وقد خصص المؤلف في الكتاب فصولا تلقي الضوء على تفاصيل هذه الوقائع. الكتاب وثيقة قيمة تحتوي معلومات وافرة عن الحملة التي قام بها المركز الهندي للتمويل الإسلامي في سبيل ترويج المفاهيم الاسلامية المتعلقة بمصاريف غير ربوية. ويحتوي أيضا مقالات أخرى تشرح ملامح الاقتصاد الإسلامي مثل نشاطات بيوت الزكاة ودورها الفعال التي تقوم بها في تنمية المجتمع الإسلامي في مختلف انحاء العالم شاملة ولاية كيرالا، وكذالك تاريخ سوق المدينة التي كانت موجودة في العهد النبوي ونشاطات المركز الهندي للتمويل الإسلامي وغيرها. والكتاب بالرغم عن أهميتها الوثائقية يفتقر إلى تحرير جيد حيث يوجد فيه تكرار في شكل ممل ومنفِّر. ويشير المؤلف في المقدمة إلى أن هذا التكرار طبيعي بما أن بعض المقالات محاضرات ألقيت في أماكن مختلفة، ولكن أن يتكرر مضمون مقال بكامل نصه في مقال آخر تحت عنوان مختلف ليس طبيعيا، ويتضح من اعتراف المؤلف أنه تساهل متعمد، وبالتالي تساهل إجرامي لا يُغفر.

عنوان الكتاب: الاقتصاد الاسلامي وتطبيقه في الهند: الفرص والعوائق

المؤلف: أتش. عبد الرقيب، اللغة: أردو، عدد الصفحات: 304

الناشر: المركز الهندي للتمويل الإسلامي، نيو دلهي، السنة: 2019