حجارة من سجيل

الدرس الخامس

أبرويز، الملك الفارسي الشهير، يرأس جلسة في بلاطه، ويملي عليه ضابط الإيرادات دستورا جديدا، وقد اشتعل في يافوخه كبرياء السلطنة، ثم زمجر قائلا” وهل لديكم من مزيد؟ ولكن المجلس التزم صمتا حتى قاله ثلاثا، فأجابه رجل بصوت رائق” اليس من الجور أن ينفذ ضريبة على شيئ مفقود” وغضب الملك”من أي دفتر أنت” فقال أنا من المحامين” وأمر الملك” اقتلوه بالدوات والمحابر” وطعنه كل منهم حتى توفي وسط أعينهم، ثم قالوا” أنت عدل وحكمك معتدل”

ولكن التاريخ مضى على سبيله، دمره الدهر وأباده، وانقهر فارس تحت سلطنة عمر العدل الأكبر، ولكن طيف أبرويز لم يزل يتسكع في شوارع فارس، ورجع إليه الجور والظلم والاستبداد، وجاء إليهم أمراء وشيوخ مرتدين حلة الكبرياء والغطرسة، وتولد سيل من الإعدامات والخنق، ومدت أيديهم إلى القرآن أيضا، ولكن الشعب كانوا يرددون “الحكومة معتدلة.”

استشهاد للمكتبة

انشق الصبح وفرحان في غاية الدهشة والذهول، وقد رأى الشيخ سالم مبتهلا في سدة بيته، ماذا يدعو الشيخ ويستجيب، فأحس من خلفه همسات خفيفة، وكان الأستاذ يقترب منه، ولكن سالم أجهش بالبكاء وشدد في الابتهال

” يا شيخ لقد أدركت معنى بكاءك، ولكن الوداع لا بد له”

وقد قاله الأستاذ ويديه محيطة بأصابع سالم، وأضاف قائلا” يا شيخ، أنا في طريق بعثة مهمة، وقد عزمت أن أهدي أحبائي ورفقائي، وهذا الولد ينتظر حضانتي وحفاظتي”

وضم الشيخ سالم فرحان، ومسح يديه ولم يزل يلتمس الأستاذ عن شيئ وشيء وقال” تعلم جيدا، كيف تجري أموري، فلا تكن دوني رادعا”

فرفع الشيخ راحتيه عن الأستاذ، وقد بدى في وجهه أسارير تتمخض إحساسات وتختفي ابتسامة ناعمة، وتبادل الشيخ إلى الأستاذ كثيرا من الأمور والعلوم، والاستاذ يصغى إليه بجد وغور، ولكن فرحان اغرورورق في فكرة طويلة، عن رحلاته مع الأستاذ، وعن الأسرار الكامنة فيها، وعن العلاقة الموطدة بين رازي حنان وبين الأباكم؟وقد سعد بعدة أشخاص لعم صلة وتجربة عن تحركات الزمان، كأنه يقضي مع رسل الصمت والسكوت، في بعلبك…. في بيروت…. في مرجيون….. في حيفا…. ما أعجب هذه الأمور…. واعتزم أن يسأله ويستجيب منه.

ولكن فرحان لم يدرك حق الإدراك عن البعثة المهمة التي أرسل إليه، وإلى أين يقودهم الشيخ، وقد وافاهم من ماوراء مرجيون….. وقد أمره الأستاذ لئلا يسألهم ويطلبهم عن عنوانهم وبطاقاتهم… وهم يسمعون من الأستاذ ما أسمع منه…نعم تحيط حول الأستاذ حقائق لا تدرك قعرها إلا الحذاق والمهرة….

zxc

ووقع على فرحان عيون نفاذة تطلقها من وجنات الأستاذ، وللأستاذ نبوغ سحري عن قراءة قلبه ومطالعة ضميره،” فرحان لا تشغل نفسك، سأنبئك عما تطلبه مني صبرا… صبرا…..

وحدق فرحان نحو الأستاذ، كأنه يستنكره ويستكرهه، ولكن تلك البسمة التي تلوح في وجهه، كانت طافية النجاة ومحراك الخلاص طول حياته، وإنه ما فتح شفتيه إلا ليحلل ما كتمه، ولكنه تعرض لأسئلة عديدة نشأت من مقتل قلب الدين وشهادته” وهل تدري رجلا غيره، استشهد أيام دراسته، وافترس لمكر اليهود ووساوسهم”

كلمات جفت مدادهم إلى حين…. وأطل الأستاذ وحدق طرفه نحو الخارج، وبيروت يسترقد في مهد الجمال والرونق ويستريح في ربيع وازديانة، وتضرب على خديها تموجات البحر المتوسط، وما بقي في المدينة لا تكتكات الدراجات والمراكب النارية، واقتحمت إلى قلبه صرخات المطابع ومراكز النشر…

الحروف والكلمات….وكتب ضخمة تتولد منها…. وكتلة بشر يقضون حياتهم منها…القاهرة وبيروت عينان تجريان من نور وحكمة، المدارس…. والأساتذة…. قام أمامها فرحان مفكرا وداعيا…

وقد قادته أمه الحنون إلى المدرسة، ولكنه أحس جمال الحروف ووقاره منذ نعومة أظفاره، وهل الأصوات هي نفسها الحروف والكلمات؟ وماذا كانت اليهود تصرخ عندما اقتحموا إلى داري، وماذا خرجت عندما سقطت الكوبة من يدي أمي، أمي الحنون، التي رفعت عويلها وبكاءها وهي تتعرض للظلم والأذا….ومن أي مدرسة تعلمت حرفها وصوتها….. وما علمني أحد أنه هناك حرف للسقوط والصرخات…. بل هي مجرد أصوات… أصوات لها أرواح… وهي تعلي صوتها وإن كانت في القراطيس…

وترددت في صماخي فرحان تلك الصرخة الهائلة… وما استقل من نكبتها وحسرتها… وما زال يتفكر عن تلك المأساة الداهية… وأمه تجلبه إلى الوراء وتذكره هذا وذاك… حرفان يتساقطان مع الدموع، كأن الدمع يولد حرف تلو حرف….

وأيضا… أقبل رديف سالم لفراش ورقة وسط الدار…. وهم يسعون لمحاربة عطشهم وجوعهم، وتقدم الأستاذ ولم يخرق عباءة الصمت…ثم تلاه تلك الجماعة… سالم ورفقاءه…. وإنما يسير الأستاذ نحو البحر المتلاطم، وهبوب الرياح يجمد جسدهم ويضمد جرحهم… درب مضى عليه قلب الدين الشهيد…. تمثلت صورته في قلب فرحان وهو يركب خيله… وصورة إلتور الذي ساير مع الغش والجش، وقد تشكل روح الخيانة في أمواج البحر المتوسط…

” أما الشيخ الجيلاني والإمام الغزالي، لقد فازا بثورة عنيفة في أيام دراستهما، وقد شاطرنا وخضنا في تلك الأحاديث من قبل” وتخرق الصمت المخيف بهذا الصوت الموقر….

وكلهم تربعوا في ضفاف البحر الأملس…..

” هنا… عديد يحكون قصصهم وحياتهم… وليس هنا من يعيد حياة شهيد فقد روحه في أوان سنه، وافترس لأسنان مكره… وكلهم يخافون ذلك العدو الساحر… ولدي قصص تشم منها رائحة الدم المعطر… سأستعيدها عليكم

وبين أظهرنا سلاطين تناسوا عن الذمة العالية، وتجاهلوا عن عمق الدين الواسع، ورهنوا عزتهم في سوقهم وساوموا عليه بثمن بخس، تكرسوا أمام عتبات الشهوة والهوى والخلاعة، وأهالي بلد تعاموا عن الكنز الدفين في بلدهم.. وهذه قصة تنبئ مقتل فاحش في الحرمين الشريفين”

الأول

في أم القرى…. في بلد بارك الله فيه وأنعم عليه بالعز  والشرف والأمن، وهناك جامعة تنتمي إليها، في جامعة أم القرى، وكانت فيها مكتبة تمتلك بحر العلم ومحيط الفنون، واتسع بناءها إلى ست شقات كبيرة، واستضافت حجافل تسيل إليها للمطالعة والبحث الأكاديمي، وقامت هذه المكتبة كنيشان تعلم عن سماحة عرب البترول….

وكان وليهم من كان يتكرس في الشهوات ويرتع في وديان الترهات والهوى، ويركع دون أثرياء الغرب والأوربا، وقد انخلع من رأسه عقال العز والإباء الصامد، ويتكبر ويرائي في استضافة ملوكها وأربابها ودعوتهم إلى السفرات الملونة، وتداولت فيها كأوس طافحات واختلفت فيها نساء عاريات…. مرة زاره دبلوماسي من بارس… يبدو أنه يهودي وإبان زيارته شاهد هذه المكتبة الضخمة، وما هيجه كبرياءها ولا علوها بل قال:

” إنه لا بد للقصر من حديقة عريقة” ومن سوء حظ هذه المكتبة كانت تقع قريبا من البوابة، حتى أقبلت الولاية إلى هدمها وتدميرها، واندفعت سيل من الدراهم في إقامة الحديقة، واستولى على هيئة إدراتها الهلع والهذيان….وزاروا الولي وطلب منه المهلة في نقل الكتب والمجلدات إلى مكان مؤتمن، ولكنه أبى واستكبر ولم يبد رأيا….

وأصبح الطلبة والأساتذة يسعون في نقلها وحمايتها ولكن الصبح لم يشرقها إلى وصوت الجرافات تدوسهم وتضرب على طبلة آذانهم، دخلت فاغرة فاهها إلى المكتبة وجعلت بوابتها مدمرة، ولكن الأبطال اعتكفوا وشدو ا مؤزرهم بصمود وثبات، وظلوا يطلبون من سائقيها المهلة والتأخر، بل تقدموا وأكملوا مهمتهم….

خلافا لظن الحكومة…نشأ هناك سد عرم يقاوم هذا الحكم الظالم، وامتدت صفوفها وتراصت واستوت، لكن غطرسة الحكومة جهزت جيشا عمرما يحاربهم، وقد أتت على الأخض واليابس ودمرت كل حارس وفارس…. استطارت من بين الأنقاض ورقات علمية أخاذة… وانتشرت مجلدات مندثرة…. ولكن عشاق العلم والحكمة تحملوا بعضا منها وهربوا من ذلك الموقع الهائل… واطمئن الحال وانكمشت سحابة الظلمة ولكن البكاء لم يزل مرتفعا….

وبعد أشهر  قلائل… أسست هنالك حديقة مورقة عريقة، كأنها تحكي قصة المباني الفانية، وكأن الحكومة في استعداد كامل لمحو العار الملتصق على جبهتها، وتنافست الأخبار في نقل هذه المشاهدة وملأوا خاناتهم ببياناتهم المثيرة، ولا شك أن الشركة كانت أوربية، وهي التي دمرت المكتبة وبنت بدلها حديقة…

وفي اليوم التالي… جاء الموعد.. موعد الافتتاح وحفلة الاستقبال… وهرولت الطلبة والأساتذة في تنوير هذه الجلسة المباركة مع استنكاراتهم ونفرتهم…. والضيف الكبير كان ذلك الملك المعظم ومعه كلاب يرجون وفاء مربيهم… حضر الملك ومواكبه واجتمعوا في المنصة المنورة، وتبتدئ المراسم بتلاوة آي القرآن…

وحضر في المنصة طالب لبناني اسمه محمود عادل… صاحب اليد الطولي في الفن والأدب، وقد لاح في وجهه بريق الشجاعة والجساة كأنه اعتزم على أمر سول في نفسه، وكان في طليعة الاعتصامات التي عقدت ضد تدمير المكتبة، وتلا آية

” ودخل جنته وهو ظالم لنفسه”

تحيرت الجلسة وقذف في أربابها الخوف والجزع، كأنهم خافوا من شيئ لا يرى…ونفذت الآية أسوار الملك ومن معه كسهام حداد لا قبل لها….

ودخل جنته وهو ظالم لنفسه،

وانسحب عادل ملتفتا إلى الملك العابس…وانصرف الضيوف بعد مشاهدة الحديقة الغناء.. وتدافع الطلاب والأساتذة لتقديم تكريماتهم إلى عادل… ولكن

ما رأوا عادلا ولا أثره… وترددت أصداءها في جامعة أم القرى ولكن الجبل لا يرد إلا مثل ما سمع

ثم ما رأوا محمود عادل ولا سمعوا خبره

جلس الأستاذ ساكتا وناظرا إلى البحر المتوسط المتلاطم… وامتلأت عيناه وتساقطت الدموع وتناثرت….

سأله فرحان” وهل تلاقيتم ولو مرة”

التفت إليه الأستاذ مبتسما… بسمة تظهر قوة الصمت والسكوت…

” فرحان… لقد ربيته قبل أن أربيك…وأسرته غلبت رصاصات موسى ديال… وكان يزاورني حي­ا فحينا” تحير فرحان من هذا الجواب المدهش… وما تحرر من دهشته حتى مشى الأستاذ مدى الصحراء….

  • بقلم: صبغة الله الهدوي