بقلم: أفلح الزمان
ضم أهل العرب الإنسان الكامل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى قلوبهم. قد كانت سعة الصحراء وتعايش البادية الضيقة تحديا للعرب. إنما القصد لمن انفرد في الصحراء الحفاظ على نفسه ولا يظهر في ذهنه أي شيء أكثر من ذلك. فمن هنا يتكون فكر جديد في أذهاننا فيؤدي إلى سؤالين مهمين. فالأول لماذا بعث الله سبحانه وتعالى خاتم الأنبياء محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الصحراء الصعبة؟ والثاني وما هي الأسباب التي اختبأت في العصر الذي اختاره الله عز وجل لختم النبوة وأن الرسول خاتم الأنبياء؟ فالدين الإسلامي غلب الزمان والمكان مع تطور العالم. وهو الدين اللائق لكل عصر ومصر.وقد لعب عصر البعثة المحمدية والمنطقة العربية دورا مهما لخلود دين الإسلام وتعاليمه بين الشعوب والبلاد. تطلب هذه الدراسة الإجابة للسؤالين المذكورين.
خصائص عصر البعثة المحمدية
وُجدت الأديان المختلفة المتنوعة بين الناس قبل ولادة النبي صلى الله عليه وسلم. فما هي الأسباب التي تقتضي إلى دين جديد؟ يرصد الكاتب المفكر الإسلامي الذي عاش في القرن العشرين “الدكتور حميد الله” في كتابه “محمد رسول الله” سببا لظهور الدين الإسلامي. يسرد “الدكتور حميد الله” رأي المستشرق “فيلب تي هتي” في كتابه المذكور وهو يقول “إن الإسلام على أصله إتمام للديانات السامية”. إذا حاول أحد أن يعرف صحة ذلك على وجهه الصحيح فلا بد من النقب عن الأديان الموجودة في ذاك الوقت مع بيان ضعفها. فالدكتور حميد الله يحلل الكلام المذكور في كتابه كما يلي “ولما أتى دين الكونفوشية بالصين احتلت الحضارة الصينية مكانا مرموقا. لكن عند بداية الإسلام كانت الصين تشكو من الفوضى الدينية وتغيرت السلالات الحاكمة الصينية. وبعد ذلك أدى عدم المساواة الاجتماعية الصينية إلى سقوطها”.
قد تسبب احتلال مجموعة آريا من شرق بحر قزوين إلى ظهور الطبقية الدقيقة في المجتمع الهندي وصورت الهندوسية نظام الحياة الذي يتعلق بالتمييز الاجتماعي فتعجب أهل الهند بمظاهر الكون مثل الشمس والقمر والنجوم وأنهم كانوا يعبدونها. قامت البوذية على سيطرة الهندوسية لكنها أصبحت مغلوبة. قد رصد المؤرخ “محمد حسين هيكل” في كتابه “حياة محمد” حالة الزمن قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “لم تزل المسيحية قائمة في ظل لواء الإمبراطورية الرومية في بلاد الغرب”. كذلك وقفت مجوسية الفرس تؤازرها قوى الشرق الأقصى وقوة الهند المعنوية . تفرقت المسيحية عدة فرق وانحرفت بعد المسيح عن صراطه المستقيم. أتى محمد حسين هيكل بمثال في كتابه المذكور: “قال أحد رهبان الكنيسة: كانت أطراف المدينة جميعا ملأى بالجدل، ترى ذلك في الأسواق، وعند باعة الملابس، وصيارفة النقود، وباعة الأطعمة، فأنت تريد أن تبدل قطعة من ذهب فإذا بك في جدل عما خلق وعما لم يخلق وأنت تريد أن تقف على ثمن الخبزَّ فيجيبك من تسأله: الأب أعظم من الابن والابن خاضع له. وأنت تسأل عن حمامك وهل ماؤه ساخن، فيجيبك غلامك: لقد خلق الابن من العدم”. نقل الدكتور حميد الله في كتابه المذكور قول المؤرخ المسيحي “آنست نس” “المسيحية التي يدعو إليها المسيح على أساس السلام ولكن كان تعامل أهل المسيحية أقبح من الذين لا يؤمنون بأي دين من الأديان. ولقد تفرقت المجوسية فرقا كثيرة. فوضعت الأخلاق السيئة في منزلة الحسنة. وبهذا تميز الناس طبقة على أصل نسبهم ولغتهم ووطنهم. وبما أن التميز تطرق إلى توزيع الأموال بعدم المساواة وجعل المجتمع الناس تحت طبقتي الملوك والعبيد. ولذا كان العالم كله منتظرا لدين جديد. وفي هذا السياق جاء النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الدين الإسلامي.
الإسلام رسالته خالدة إلى يوم القيامة. فينشأ السؤال من صدورنا كيف واجه الدين الإسلامي منذ زمن قديم العالم المتطور المتغير؟ عندما نطلب الإجابة لهذا السؤال نكشف خصائص العصر المحمدي التي قادت إلى ديمومة الإسلام من عصر البعثة المحمدية. هذا الفكر يوصل إلى النتيجة القيمة وهي أن أصول كل المعاملات وأسس التطورات تكونت في زمن النبوة. فهذا كما يلي:
أولا: إذا فكرنا عن النقود، فنجد أن الناس استخدموا نظام المقايضة في الأزمان القديمة لتبادل السلع والخدمات بدلا من النقود. لكن كثر استعمال النقود للبيع والشراء في العصر النبوي. قد ذكر الكاتب محمد عثمان شبير في كتابه ’المعاملات المالية المعاصرة‘ “النقود وسيلة للتبادل ومعيار للسلع والخدمات”. من المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والناس يتعاملون بنقود الروم والفرس، فقد ذكر البلاذري: “كانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية،” إذن نفهم من الكلام المذكور أن أهل مكة كانوا يستخدمون النقود. ويؤكد رأي ابن خلدون هذا. قال: “وكان العرب يتعاملون بالذهب والفضة وزنا، وكانت دنانير الفرس ودراهيمهم بين أيديهم يردونها في معاملاتهم إلى الوزن”.
وثانيا: قد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم دعاء ندعو به حين نركب المراكب. فيأتي في تأملنا كيفية المركبات الموجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. نجد أنهم استخدموا الحيوانات مثل الحصان والجمل لسفرهم.
وثالثا : كان الناس يسافرون إلى البلاد الأخرى و يتبادلون المعلومات والثقافات فيها.
ورابعا: تشكلت الحدود بين الدول التي حكمت الإمبراطوريات فيها.
وخامسا :كانت العلاقات الدولية قائمة بينهم ولو كانت إيجابية أو سلبية.
وسادسا: كانت التجارة مرجعا عاما بين الناس ويثبت ذلك كلمة “التجارة” الواردة في القرآن الكريم.
وسابعا: اللغة العربية كانت حية مع خطها الجميل منذ قديم الزمان. وستأتي خصائص اللغة العربية في هذه الدراسة.
ومن هنا نفهم أن دين الإسلام لا يبين استخدام الأشياء المعينة لكن يبين كيفية استخدامها.
خصائص جزيرة العرب
كلمة “العرب” تطلق على “الصحراء”. في وسط طريق القوافل المحاذي للبحر الأحمر ما بين اليمن وفلسطين، تقوم عدة سلاسل من الجبال تبعد نحو الثمانين كيلومترًا من الشاطئ. وهي تحيط بوادٍ غير فسيح، تكاد تحصره لولا منافذ ثلاثة، يصله أحدها بطريق اليمن، ويصله الثاني عند مرفأ جدة، ويصله الثالث بالطريق بحر القلزم بطريق قريب من البحر الأحمر المؤدي إلى فلسطين. في هذا الوادي المحصور بين الجبال تقع مكة. قد ذكر الإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن تحت الآية من سورة البقرة (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةࣰ وَسَطࣰا) أن مكة وقعت في وسط الأرض. وفي عصر البعثة، عندما نعتبر العالم القديم (أوربا وآسيا وإفريقيا) أن مكة هي مركز العالم ولم يوجد مكان صالح للسكن في جميع نواحي الأرض كما نرى في العصر الحديث. ومن قديم الزمان احتفظ موقع مكة الجغرافي والصحراء الواسعة أهلها من المحتلين والمستعمرين. كانت جزيرة العرب جرزا جافة بعدم نزول المطر وأصبحت الحياة الصحراوية تحديا لأهلها. قد كان في العرب البرد الشديد والحر الغليظ في زمني الشتاء والصيف. وإن كان الإسلام صالحا للبيئة الصعبة الضيقة فهو صالح لكل عصر و مصر. كانت مكة مأوى لكل من يستريح وأظلت أشجارها للمسافرين إلى البلاد الأخرى. ثمّ تغيرت هذه الملاجئ مراكز للتجارة والعبادة. وساعد سفر التجار في مكة لانتشار الإسلام إلى كل ناحية من نواحي الأرض.
حينما نقول عن جزيرة العرب لا بد أن نضيف شيئين مهمين بها. أولا : أخلاق أهل مكة، ائتلفوا بحياتهم الصحراوية المتحداة وأحسوا الحرية الكاملة الحصيلة من طبيعتهم. قد كان الجود والائتمان والشجاعة وحب القبيلة من أخلاقهم المخلصة. مدحت الشاعرة المخضرمة الخنساء في الشعر أخاها صخرا بكثير الرماد فأشار هذا المدح إلى إكرام الضيف للعرب. وكان التاريخ العربي مليئا بأمثاله. أظهرت حادثة سموأل بن حيان بن عاديا إئتمان العرب كما يلي : “لما ذهب الشاعر الجاهلي امرؤ القيس إلى سوريا وكّل الشاعر اليهودي سموأل في أن يحفظ حليه. جاء رجل اسمه حارث القحطاني إلى سموأل أن يطلب منه الحلي وكان عدوا لامرئ القيس. ولكن رفض سموأل. ثم جاء الحارث مع نفره ليأخذ منه الحلي وساوم الحارث لسموأل مقبضا ابنه لكن لم يتحول موقفه”. قد اشتهر المقول أي “أوفى من السموأل” في اللغة العربية. هكذا يوجد كثير من الحوادث المشيرة إلى إخلاص العرب وأمانتهم. قد وصف الإمام الفراهي أخلاق العرب بنقطتين هما الصدق والكرم. لهذا قال النبي صلى الله غليه وسلم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” أي أن الأخلاق الحسنة والصفات المحمودة موجودة وقد جاء الإسلام لإتمامها فليس لإزالتها
ومن أخلاقهم السيئة، هي العصبية يبرزها تاريخ حرب الفجار وقد ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى سبب تلك الحرب وتاريخها فأخرج بسنده من حديث إبراهيم التيمي وعبد الله بن يزيد الهذلي عن يعقوب بن عتبة الأخنسي قال” : كان سبب حرب الفجار بأن النعمان بن المنذر بعث بلطيمة له إلى سوق عكاظ للتجارة وأجارها له الرحال عروة بن عتبة بن جابر بن كلاب فنزلوا على ماء يقال له أوارة فوثب البراض بن قيس أحد بني بكر بن عبد مناة بن كنانة وكان خليعا على عروة فقتله وهرب إلى خيبر فاستخفى بها ، وبلغ قيسا الخبر آخر ذلك اليوم ، فنادى المنادي بينهم ميعاد ما بيننا وبينكم هذه الليالي من قابل وأنا لا نأتلي في جمع ، فمكثت قريش وغيرها من كنانة وأسد بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش ، سنة يتأهبون لهذه الحرب وتأهبت قيس بن عيلان ثم حضروا من قابل ، فالتقوا فكانت الدبرة أول النهار لقيس على قريش وكنانة ومن ضوى إليهم ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس فقتلوهم قتلا ذريعا حتى نادى عتبة بن ربيعة يومئذ إلى الصلح فاصطلحوا على أن عدوا القتلى وودت قريش لقيس ما قتلت فضلا عن قتلاهم ووضعت الحرب أوزارها فانصرفت قريش وقيس” توجد قصص كثيرة مثل حرب البسوس دليلا على عصبيتهم.
قد أشار الكاتب أ.د محمد سهيل طقوش في كتابه “تارخ العرب قبل الإسلام” إلى حالة المجتمع العربي التفاوت الاجتماعي بين الناس كما نجد في معظم الدول الحديثة . أنه انقسم إلى ثلاث طبقات باعتبار وضع الاقتصاد وهي الطبقة العليا تشتمل فيها أبناء القبيلة الأحرار الذين يرتبطون برابطة الدم والنسب. فالطبقة الثانية هي الوسطى يشتمل فيها الموالي وتفرقت هذه الطبقة إلى أربع فرق هي الخلعاء والأغربة والفقراء والعتقاء. والطبقة الثالثة تعتبر الطبقة الدنيا تحتوي فيها العبيد السود والأرقاء البيض والسود يجلبون من سواحل إفريقيا.والشعر مرآة عصره فنجد الأشعار المكتوبة في العصر الجاهلي صفة الخمر والمرأة وهذه الأوصاف تشير إلى أخلاقهم السيئة وطبيعتهم الخاطئة. فالإسلام أتى لينفي عدم المعنوية ويحقق السلام والمساواة في العالم
الثاني: اللغة العربية هي أقدم اللغات العالمية. وإحدى اللغات السامية التي انحدرت من سام بن نوح عليه السلام. تحتل اللغة العربية مكانة مرموقة بين لغات العالم. قذ ذكر آر.آ نكالسن في كتابه المسمى ( (A Literary History Of Arabsاللغة العربية أقرب اللغات السامية إلى أصلها الأم. يعتبر يعرب بن قحطان بأبي اللغة العربية. قد قيل “لسان العربي أمهر من عقله” تشير هذه المقولة إلى مهارتهم باللغة. أظهر الديوان الشعري المعروف بالمعلقات السبع خيالهم القيمة ولغتهم الفصحى. لم تتحول اللغة العربية مع تغير العالم حتى الآن فالقرآن الكريم والسنة الشريفة والمعلقات السبع مفهومة لدى العرب. ويرجع تاريخ خطوط اللغة العربية إلى أقدم من خمس مئة سنة للميلاد. لا يوجد استعمال مثنى إلا في اللغة العربية بين اللغات العالمية. تواجه اللغة العربية المذكر والمؤنث بأحسن طريق. واللغة العربية تحتوي في كلماتها على المعاني الغزيرة.
وهكذا يبرز عصر البعثة وجزيرة العرب ولغتهم على قدرة الإسلام للخلود. وقد تمت الأصول المحتاجة إلى تطور الحضارة العالمية بإنزال هذا الدين. فلم يبق في العالم إلا التجديد للأصول الموجودة في عصر البعثة.