محمد سفيل بن عبد الكلام
هذه الأيام نداولها مشرقة بأحلى تلاوة القرآن بينما نسيم الصبا يهب من مشرقه وريح الدبور تأتي من مغربها، ظروف ما أطزج طورها وقد توجهت بروحها لاعتناق شهر مبارك، وأوضاع قد احتضنها استقبال أثلاث شهر لم تزل متوفية بالهناء للصائم القائم وقت فرحة اللقاء، ضمائر ترقص بأقصى غايتها حبا لما وعد له ربه من جنات وعيون، صدور تترنم بأعلى صوتها شكرا لما وهب له ربه من أشعة الإيمان، وقد صفا الجو الروحي باكتساب أفاعيل الخير، والجو المادي حين الناس مقفولين وراء جداران.
فالوقت نقي من وعورة الختالة لما هل شهر المؤمنين، انهمكت الأرواح في قبضة الرحمن، وانذابت في سوح المغفرة الجثمان، وانكبت الأنفس في روح الجنان، فما هي إلا تصديق حديث رسول الله عليه أفضل الصلاة وأنماها، كيف يظمؤ الجسد وقد روي من منبع الطرب الإلهي، أم كيف يجوع وقد شبع من مائدة الترنم الوهبي، فكانت النفس عبقة لبقة لا فيها كدورة العنجهية بالذات والفجعان بالدنيا، بل فيها نبضة العيش البحت لله والذوق الصرف لوجهه، نعم الناس كلهم تواقون إلى سعة الله الكريم، وقد ارتدوا ببرواز رمضاني معتدين لبؤرة يوم اللقاء.
أتاحنا الله نهزة للتقرب إليه والتوظيف به فلا يضيعها إلا من ضعفت قيمه وقوي هواه، وصب علينا برهة للصيام والقيام فلا يعطلها إلا من كانت شهوته غلبت قريحته. فمن كانت سليقته سبقت نفسه ففاز بإتيان ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه فهو الرمضاني، حيث هو ضحى بنفسه أمام التقرب إلى الله والتجنب من الشيطان، وفدى بدنياه لقبول جزيل الثواب من الله المنان، وحينما كنت فعاليا بالصلوات نفلها وفرضها والصوم معدا له مهتما به فصعدت الدرج الرضماني، وتدريجا تفتح أمامك أبواب السلامة من الذنوب، وشغلك قلبك بازدياد من القربات فتقرأ القرآن ختما بعد ختم مرتلا بآياتها ومدبرا معانيها مشتاقا لما وعد الله للمتقين مستغيذا بالله مما أعد الله للمتكبرين، وشغلك بالذكر فيكون لسانك رطبا بالذكر والكلام بعدما كان يابسا قلقا بذكريات الدنيا، فكنت الآن في وسط المصعد الرمضاني، حينما تكون مستمرا آنا تلو آخر في هذه الحالة، تنبع من ضميرك رغبة التقرب إلى جانب الله والإعانة عليه بكثير العطاء لما كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود من ريح مرسلة في أيام رمضان، فتتعرض بالزكاة والصدقة والقربة على قدر وسعك ومقدرتك فالله يناديك ويجعلك من محبيه، والملائكة يسمعون اسمك ويسجلونك ممن يستفيدون بالرمضان، فكنت الآن على درج عالي، فالريان مترقب لقدومك والرضوان منتظر لمصافاتك والحور لمعانقتك.
وقمت وصمت وقرأت القرآن وأديت الزكاة وتصدقت متعبدا لله طيلة أيامك في رمضان، ولا أمامك رغبة دونه ولا أمل إلا ساحات الفردوس، وأقضى أثلاثك هكذا، فغشيت بالرحمة الواسعة، وطرحت عليك مغفرة الله فكنت نقيا من قمامة الذنوب مثل الثلج الأبيض، وما زلت بالدعاء والتضرع وإليه في الثلث الأخير خاصة وتلقتك ليلة القدر وهي خير من ألف شهر فهنيئا لك ومكرمة لقد رضي هذا الهلال عنك، وشهد لك شهر رمضان بين يدي مليك مقتدر حجة لك، وقد سجل اسمك بين المعتقين من النيران، والمدخولين إلى روضة الجنان، فكنت الآن رمضانيا، وألبس طوق النجاة من الإله…
وفقنا الله…