المقامة الرمضانية

بقلم محمد سليم

حكى خالد بن سلام قال لمّا حفزتني حوافز الشوق للخروج في السفر، بعد أن مكثت طويلا بين أهل الوبر. قصدت إحدى المدائن التي يقطنها أهل الإيمان، ويسكنها الرجال الذين يخافون الرحمان، ويطلبون منه العفو والغفران، ويسألونه سعة في الدار وبركة في الرزق فهو الواحد الصمد المنّان. وقد وصلت المدينة وقت الأصيل، وكان يهبّ في الفضاء النسيم البليل، وبدا كل شيء كأنه يسبّح بالرحيم القدير الجليل. وقد أنعش النسيم اللطيف روحي بعد كدّ السفر وجدّه، وبعد جزر عنائه ومدّه. والسفر قد استغرقني طول النهار، والسفر ما هو إلا قطعة من النّار.

ولمّا اقتربت من المدينة رأيت أشباحا نورانية تحلّق في الفضاء، وشاهدت هالة من البركات والنعم تتلألأ في السماء. ووجدت الأشجار الباسقة ملفوفة بأردية الخير والبركة، وأغصانها تتمايل بالانتعاش والحركة. وعندما نزلت إلى بيت صديقي في عمق المدينة، استقبلني صديقى بحرارة لم تكن متكلفة ولا ضنينة. ورأيت في بيت صديقي ما أثلج فؤادي بعد عناء السفر، وأفعم قلبي بالفرح وعلا وجهى البشر. رأيت الأطفال يفرحون، والولدان يمرحون. لأنهم رأوا هلال رمضان بأمّ أعينهم، مع آبائهم وإخوانهم. ففرحوا به فرحة أم فقدت طفلها ثم بعد حين وجدته، أو فرحة طلاب أرهقتهم يقظة الليل للدراسة وفي الأخير نال الكلّ بغيته. ومع صديقي ذهبت إلى المسجد لأداء صلاة العشاء، فوجدت فيهم رجالا أتوا إليه منذ أن دخل عليهم المساء.

وبعد الصلاة رأيت الإمام يقف على المنبرو يخطب، فبدأ بحمد الله وتسبيحه وتعوّذ به من شرّ الزمان وسيئ الخطب. ثمّ تنحنح وقال، يارجال! شمّروا عن سواعدكم، واستعدّوا لما هو آت ببذل جهودكم. فإنكم كما تعلمون قد أهلّ عليكم شهر رمضان، الذي أنزل الله فيه القرآن، هدى للناس وبيّنات من الحق والفرقان، وبه أقام الله على الحق البرهان، وهو درع المؤمن من وساوس الشيطان.

وفي القرآن الكريم شفاء للصدور، وفيه أحكام لجميع الناس الإناث منهم والذكور، وفي تلاوته رحمة للعبد التقي الشكور، وفي آياته بركة للعبد من جانب الربّ الغفور. فيأيها الناس أكثروا من تلاوته، ففيها حلاوته، وتدبّروا في معانى كلماته، وتفكّروا في آياته. وانتهزوا الفرصة في هذا الشهر الكريم، وتوبوا إلى الله فهو التوّاب الرحيم، واستغفروه من ذنوبكم فهو الغفّار الحليم. وجدتم شهر رمضان فابتغوا فيه البركات، واجتنبوا السيئات، وأكثروا من الحسنات، وأنفقوا في سبيل الله الصدقات، وأقيموا في أوقاتها الصلوات.

شهر رمضان شهر مبارك تصفّد فيه الشياطين، وتوصد الأبواب في وجوههم فلا تسري مثل الدماء في الشرايين. وتكون منهم منجاة للناس أجمعين. فيقلّ وقوع الجرائم، وتصفي القلوب من السخائم. هو شهر كتب الله فيه الصيام، على المؤمنين الذين يعبدونه وحده وهم قيام، ولا يعيشون حياتهم مثل الغفلة النيام، وتكون قلوبهم بذكر الله مطمئنة وهادئة على الدوام. ثمّ أنشد قائلا:

كل من أدرك شهر رمضان

فليفرح به فرحة جذلان

وليقم الليالي وليصم النهار

فيكن من الشر في جُنّة وأمان

وللصائم عند الله نعم كثيرة

جزاء لعبادته بالبرّ والإحسان

ومن بركات هذا الشهر الكريم أنه يضاعف فيه للحسنات ثوابها، ويزداد للصدقات جزاؤها. وقد جاء في القول المأثور، وهو في كتب الأحاديث مذكور، أن الفرائض يضاعف ثوابها إلى سبعين درجة، وفي هذا إشارة إلى ما في هذا الشهر من بركة وعظمة. ومن بركات هذا الشهر أنه فيه ليلة خير من ألف شهر، تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر.

وقال خالد بن سلام ثم رأيت الإمام توقف في كلامه وسكت، وأخذ كوبا من الماء فشربه وللحظة صمت. ثم استأنف كلامه، وواصل حديثه. فقال يأيها الناس! اجتنبوا في هذا الشهر من قيل وقال، وخير لكم أن لا يغيب خوف الله عن الخيال، فإنّ يوم القيامة ستجدون فيه عن كل شيء السؤال، ولتجتهدوا ما في وسعكم كي تدفعوا عن أنفسكم الشرّ والوبال. ولا تباغضوا ولا تشاحنوا، ولا تحاسدوا ولا تطاحنوا. وكونوا عباد الله إخوانا، وسيورثكم عملكم هذا فضلا من الله وإحسانا.

شهر رمضان هو شهر لتزكية القلوب، وتصفية النفوس من أدران الذنوب، وطلب الغفران من الله وطلب النجاة من المحن والخطوب. الأيّام العشرة الأولى من شهر رمضان رحمة وثانيها مغفرة وآخرها عتق من النار، والتي من دخلها يلحقه البوار. رمضان شهر لتربية النفوس على احتمال الشدائد، وتعويد الناس على الصبر عند الفواجع ونزول العوائد. وإشعار الأغنياء بقرص الجوع الذي يعانيه الفقراء، وإخبار الناس بأن للمساكين حقا معلوما في أموال الأثرياء والأمراء.

هو شهر لياليه مليئة بالنعمات، ونهاره مليء بالبركات. قيام لياليه يكفّر الذنوب، وصيام نهاره يصفّي النفوس والقلوب. وللصائمين عند الله درجات، ولهم نعم كثيرة في الآخرة وجنّات. وفي الجنّة باب خاص معروف بباب الريان، يدخل منه الصائمون ذوو الإيمان. ولرائحة أفواه الصائمين أهل الزهد والنسك، أفضل عند الله من رائحة المسك. وقد جاء في القول المأثور، وهو في كتب الحديث مذكور، وفي صفحاتها منثور، أن الله يقول الصوم لي وأنا أجزي به، فما أعظم لطف ربّنا وما أحسن كرمه.

 وقال خالد بن سلام ثم رأيت الإمام سكت، وللحظة صمت. ثم تنفس بعده، واستأنف حديثه. فقال يأيها الإخوان! أخلصوا لله دينكم، فلا يعلم أحد منكم متى يحين حينكم. وليتزود كل منكم زادا للحياة، التي سوف تأتي بعد الممات. فإنه ما تدري نفس بأي أرضٍ تموت، أو متى يغيب عنها روحها أو يفوت. وقال خالد بن سلام وبعد أن انتهى الخطيب من إلقاء خطبته، في عظمة شهر رمضان وفضيلته. رجعنا إلى بيت صديقي مع الإخوان المؤمنين، وكلّهم كانوا فرحين بمجئ رمضان ومغتبطين.