بقلم كريم عاشور
ترددت كثيرا وأنا أكتب عنك يا أبا فهر، زلّ القلم ولم يطاوعني، خططت ومحوت قرابة أسبوعين ثم عدلت عن الكتابة عنك، فأي كلام يوفيك حقك؟! وأى لغة تساعدني في التعبير عن فضلك عليّ وعلي كثير من محبيك؟! ثم إني رأيت الكلمات وإن كانت لا تناسب قدرك ومنزلتك، فلعل قارئا لم يسمع بك يعرفك من خلالها فتكون حسنة لي أتقرب بها إلى الله _عز وجل_.
أبو فهر محمود شاكر شيخ العربية هذا الرجل الذي يستحيل أن تخرج إلي الحياة الأدبية بعد قراءة كتبه كما دخلت، رجل المنهج الحريص علي وعي قارئه، المكسبه التذوق، والتذوق وحده عقدة العقد، الكاتب الذي _بعد قراءة كتبه_ سيصغر في عينيك كثيرون ممن كنت تمجد أساليبهم في الكتابة.
مستوي الفهم القرائي قبل القراءة لمحمود شاكر سيختلف كثيرا كثيرا بعد القراءة، إذ يهديك إلي المنهج الصحيح، ويجعلك تحس بمدلولات الألفاظ، يعلمك كيف تقرأ وكيف تفهم وكيف تنقد وكيف تكتب؟ تجد عنده بيان اللغة، وقوة البيان، وفهم الأسباب، وعبقرية الربط بالنتائج، ودقة الفهم لتراكيب القدماء.
يأخذ بيديك إلى منهج فريد في قراءة العمل الأدبي _منهج التذوق أو الاستبانة كما كان يحب أن يسميه_ فيعلمك كيف تستنطق أحرف وكلمات وتراكيب الشاعر أو الأديب لتكشف عن حاله، هل هو صادق أم كاذب فيما يدعيه؟ يعلمك كيف تضع يدك _من خلال ألفاظ الأديب وأنفاس الشاعر_ علي مواطن حزنه وسعادته وعلى ما يتميز به من عواطف وغرائز و طبائع وأهواء ونوازع وتعرف أبعاد شخصيته وسماته الظاهرة والخفية وتؤرخ لأحداث عصره حتى كأنك ترى صاحب الكلام ماثلا أمامك يتحرك يضحك أو يبكي. يعلمك أن تعطي الكلمة حقها من حسن الاستماع، والأناة، والصبر، والمراجعة، ونقد الأقوال الملقاة إليها، وتمييز أصحابها من هم؟ ومن يكونون؟ ولمَ قالوا ما قالوا؟ وهل هم صادقون فيما يقولون؟ أم كاذبون مزوّرون؟
وبتتبع منهجه في التذوق أو الاستبانة الذي وضعه لقراءة الشعر العربي ثم التراث العربي كله نستطيع أن نعد محمود شاكر رائدا من رواد الربط بين الدراسات النفسية والعمل الأدبي.
محمود شاكر الذي ترك الجامعة بل ترك مصر كلها اعتراضا علي السطو وسرقة الأفكار وفساد حياتنا الأدبية، ترك الجامعة اعتراضا على أستاذه (طه حسين) الذي سرق بحث (مرجيلوث) المستشرق الأعجمي الخبيث الحاقد على الإسلام، وشكّك في صحة الشعر الجاهلي، ولو بحثت في تاريخ الأدب العربي كله لن تجد رجلا هجر دراسته ودولته كلها دفاعا عن قضية أدبية واستنكارا لفساد الحياة الأدبية إلا محمود شاكر.
عرفت كتب شاكر وأنا بعدُ غر غَمْر صغير في السابعة عشرة من عمري، أتحسس خطواتي الأولي في عالم القراءة لا أدري شيئا، جاهلا غافلا _ولا يؤتى المرء إلا من غفلته_ أحس بإننا نعيش في عالم زائف مموه، غلب فيه الباطل، وساد الأراذل الكذبة، أشعر بفساد شامل محكم مطبق على حياتنا اللغوية والثقافية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية، أشعر بذلك وأحسه في نفسي بفطرة كامنة خفية داخلي، ولا أستطيع أن أبين عنها، كنت أشك دائما في هؤلاء الأعلام الذين ندرسهم في مراحل التعليم المختلفة، أشعر دائما بشىء غامض خفي بداخلي لا أستطيع أن أبين عنه، هذا الشيء يدفعني إلى الشك في منهج كثير ممن قُدموا لنا على أنهم أعلام أدبية، أسماء كثيرة لا أستطيع الاطمئنان إليها، ولا أعرف السبب، أسماء أقرؤها في الكتب، أسماء تسمت بها محطات المترو و الشوارع والمدارس، أسماء أقرؤها وأسمعها فأرتاب فيها، ولا أعلم سبب الريبة، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، طه حسين، أحمد لطفي السيد، عبدالعزيز فهمي، سلامة موسى، وغيرهم فكنت أدخل إلى محقق البحث”جوجل” وأبحث عنها، وعن معتقداتها وآرائها حتي صادفت يوما هذا الاسم ” أبو فهر محمود شاكر”.
وكان أول ما وقعت يدي عليه “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” فوجدت مؤرخا محققا واسع الآفاق مدافعا مستبسلا عن الهوية والثقافة العربية الإسلامية، وجدت أديبا أريبا طبيبا وصف المرض الذي أصاب أمتنا (الاستشراق _ الاستعمار _التبشير) ، وقدم العلاج المتمثل في الحفاظ على ثقافتنا وعدم الذوبان في ثقافة الغرب، وحذر من الدعة والتراخي في مقاومة هذا المرض.
وتخرجت في الجامعة، وعملت مدرسا لعلوم اللغة العربية للمرحلة الإعدادية في إحدي المدارس الدولية، وجدت منهج “دنلوب” مطبقا بطريقة أخطر مما حدثنا شاكر _رحمه الله_ وجدت علوم اللغة العربية ومادة الدراسات الاجتماعية في هذه المدارس غير مضافة للمجموع، وجدت منهجا خاويا من كل هوية عربية، ورأيت عمل التبشير الحقيقي في نفوس أبنائنا، رأيت الميل الشديد إلى علوم الغربيين، وثقافتهم، واعتناق مبادئ حضارتهم، رأيت مناهجنا وطلابنا بل مدرسينا و مديريهم _ولا أستثني معلمي علوم اللغة العربية_متلونين بالمدنية الغربية إلا القليل.
رأيت الثقافة الغربية قد افترست أبناءنا، ثم قضقضتهم، ثم نهشتهم، ثم ابتلعتهم في رحمها بضعة بعد بضعة، و أيقنت أن الصراع بين أرض العرب والإسلام، وبين أوربة الغربية الذي طالما تحدث عنه شاكر قد حُسِم. ورأيت الدعوة إلى العامية واللاتينية لم تعد دعوة بل صارت نموذجا مطبقا تراه في كشاكيل الطلاب وفي أجوبتهم عن أسئلة الامتحانات، ورأيت تحقير تراث العرب وتسفيهه والحط منه ولا سيما الشعر الجاهلي _تجد هذا جليا في المرحلة الثانوية_ رأيت الإيغال الماكر في الطعن على ماضينا كله (رجاله وتاريخه ومعتقداته وشرائعه) كما حذّر شاكر _رحمه الله_.
ولا سبيل إلي النجاة من هذا الهلاك، والبُرء من هذا السقم المضني إلا بتعريف أبنائنا بهذه الأعلام رموز الأصالة العربية وعلي رأسهم محمود شاكر، وإقرار بعض مؤلفاتهم لتدرسه الطلاب ولاسيما “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، والتمسك بالهوية الإسلامية في وجه تيارات التغريب
هذه كلمات قليلة من محبٍ لرجل أفنى عمره في سبيل خدمة دينه وتراث أمته والدفاع عن هويتنا وثقافتنا، أنا أكتب وأعلم أن قليلا سيقرأ، ربما عشرات، ربما أفراد قلائل يعدون علي أصابع اليد الواحدة، لا يهمّ العدد، ولكني أشعر براحة كبيرة بعد كتابة هذا الكلام عن محمود شاكر _رحمه الله_.
اقرءوا لمحمود شاكر، وعلموا أولادكم أن يقرأوا له، وأنصح في البداية بقراءة “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” و ” أباطيل وأسمار”.