الضيف

الحافظ محمد جسير، طالب بجامعة دار الهدى الإسلامية

لقد طفقت السماء أن تمطر منذ أيام معدودة، فتافعت لها أعنة مطلقات وارتفعت لها صواعق مصفعات، وألقى الكهرباء حبله على غاربه إثر دياجير الغمامة السوداء، ولاذت الجوالات بالصمت رويدا، حتى ضاقت علينا الأرض بما رحبت، حيث قضيت طرفي النهار في ضنك وضيق. لكن للأسف قد بلغت القلوب الحناجر فور ما أرخى الليل سدوله، واستمعت بمجامع القلوب لشديد لهجات الزوجة وهتافاتها عن المطر، فبت داخل الغرفة القذرة تحيطه جدران أربعة وباب موصد، أجول في حومات هاتيك الأصداء جولان الحائم، وأجوب طرقاتها مثل الهائم.

فلما أن انطفأت مصابيح النجوم، ومرق أديم السماء ومحا ما فوقه من الرقوم، تغلغلت زاوية من زوايا البيت على حين غفلة من أهلها، خاوي الوفاض، بادي الانفاض، أتخبط المصباح خبطة عشواء، وسعيت في طلب النور سعي القطا في طلب الماء، فبقيت آويا إلى فراشي تصلني أصوات الأمطار وقراع القطرات من مكان ليس بعيدا عن مثواي، ثم هببت من النوم على صوت طرق الباب، وطمحت عيناي كالعادة إلى ساعة الحائط فوجدتها خالية وهنا تذكرت إحساسا يملأ المكان والزمان، فأخذت المصباح اليدوي القائم تحت وسادتي بغتةً، الساعة الثالثة صباحا… فأوجست في نفسي خيفة: “مَن الذي يطرق الباب الآن”؟!!

قمت أحس ثقل جسدي…قدمي…أتحرك بصعوبة..أتحرك. أذرع الغرفة… وكنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى فأتصنع الهدوء….

ثم إني أقبلت بهمتي العانية على الباب بعد أن أيقظت الزوجة والأبناء، وفتحت الباب المطروق فإذا هو رجل بالقنديل الزاهي والذي يسكن في الطابق الأول، وقد كانت بيني وبينه إحن جرت من قبل.

وكان الضوء المتسلل عبر حافة الباب يرسم خطا مضيئا على أرضية الممر السوداء، فأردف قائلا لي: ” انتبه أيها الغالي…، تجري الأنهار من حول بنيانك، وستجعلك ومن معك تحت زخات المطر،  فاخرج أنت وأهلك معي بمآربكم غير بعيد..”

ساعتئذ وقفت أنظر إليه لا غير….

أنظر وكأني أرى لأول مرة ما في وجهه من حسن وضاء، وما في عينيه من رقة وطيبة، وكأنني لم أعرف من قبل كم قويتان وماهرتان يده في العمل، وكم صافية نقية ابتسامته المدفئة للقلب، ومثل موجة حارة سرى في صدري شعور جديد لا عهد لي به من عالم لا أعرفه، وفي طوية نفسي فزعت إليه لأصل الشكر إليه.

فانصرفت من الباب حيث أتيت، وقضيت الخجل مما رأيت، ثم إني تأبطت البطاقات البنكية واعتضدت البيانات الشخصية، وأفعمت سجلا من الملابس الضرورية، فسرنا على مساره. فبينا نحن كذلك إذ وافانا أهله وقد بلغ منهم الإعياء، فاحتفونا إلى واحتهم الخيرة، وشغفوا بنا من صميم قلوبهم فضممت يدي من يدي ذاك الرجل الكريم فأمسك ساعة حتى اسود ما بيني وبينه ثم قال لي:”لست جاري فقط…بل الضيف المكرم..”

فكنا نتطامن أمام هؤلاء الجيران الذين قاموا بالقناديل في جم الحالات الهائمة، وشدوا النطاق في تيسير الأمور الضارة. ناهيك بمن يقول الحق ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويحذر من دار البوار.