الحنين إلى الطفولة “عود” و”عيد”

عثمان إرنغاتري

كنت أحبّ منذ صغري أن يقدم إلينا عيد الفطر برؤية الهلال في ليلة التاسع والعشرين من رمضان، وما كنّا نشعر تلك البهجة والفرح في العيد الذي يأتي بعد إكمال الثلاثين .
كنّا نمرح ونرقص فرحا منادين “شفنا الهلال..شفنا الهلال”
كنّا نرهف سمعنا إلى المذياع لسماع خبر رؤية الهلال ، فإذا جاء الخبر يضرب الناقوس في المسجد، وتملأ السماء بدويّ التكبيرات.
يبدأ عيدنا بذلك الخبر البهيج، ولا تبقى إلّا حسرة واحدة ، وهي أنّ الأنعام والأبقار فقدت يوما واحدا من عمرها.
لا ننام تلك الليلة، وتبدأ النساء بتجهيزات الحنّاء، وكنّا نستعمل صمغ الكاكايا للتنقيط في راحة اليدين، وعندما نأكل ثمرات الفنس كنّا نلزق ماءها الأبيض على عصا صغيرة لنستعملها عند الخضاب بالحنّاء، وكنت أمدّ راحتيّ أيضا بين أخواتي
“هذه للبنات فقط، ولا تسنّ للرجال”
وكنت أداهنهنّ بنبرة متواضعة ” لي أيضا”
فتكتب أختي الصغيرة على يديّ بصمغ الفنس “يو . اس” الحرفان الأوّلان لإسمي .
وتخضب عليّ بحنّاء قليل فتسري في عروقي نشوة مسكّرة ! وكنت أنزعه سريعا ولا أصبر أن يحمرّ كثيرا ، وعندما تفتح المدارس نري بعضنا البعض أيدينا فنتنافس وندّعي “إنّ يدي أجمل . ..وما احمرّت يداك مثلي “
ولا ننام في تلك الليلة ويستمرّ صدى التكبير يتموّج في الهواء إلى نصف الليل
ويكون هناك طابور طويل أمام كشك وضع أمامه فانوس، وفي هذا اليوم يشتري اللحم كلّ فقير، وربمّا ينقص بعض التجّار الماكرون في الكيل.
يلقي قطعة صغيرة في كفّة الميزان فينهبط سريعا فيرميه إلى ورق الساج قبل الارتفاع، وبالنتيجة عندما نفتح الكيس في البيت لا يكون لحم لكيلو واحد إلّا ثلثيه، ولا أندم على المشترين المتعوّدين، ولكن ماذا لمن لا يشترون اللحم إلّا في العيد، وربّما أخفوا أربعة أو خمسة عظام في لحم كيلو واحد، وعلى الرغم من كلّ هذا لا يكون هناك بيت لم يشتر اللحم.
وفي الصباح نغتسل بعد وضع الدهن في سائر أعضاء البدن، نقوم أمام الأمّ كما ولدتنا ، فتضع الدهن من الرأس إلى أسفل القدم، ولا يٌغسلنا إلّا بعد وقت قليل ليجفّ الدهن على البدن.
ينتشر من المطبخ رائحة غليان مرقة اللحم، رائحة من نوع خاصّ ! وإذا جاءت معها رائحة الأرز النارجيلي فتعجز الكلمات عن وصفها، وكنّا لا نشتري الصابون ذا الرّائحة الجميلة إلّا في يوم العيد، وغسل العيد هو ذلك الغسل
ثمّ نرتدي ثوبا وإزارا جديدين ونضع في صماخ الأذن قطعة معطّرة من القطن، ونفتح علبة النعلين الجديدين ،
تفيض التكبيرات من المسجد ويذهب الناس إلى المسجد
تصيح الأمّ
“هيّا.. ولد ستنتهي الصلاة”
وإذا انتهت الصلاة نشتري بعض أنواع اللعب كساعة الأطفال والبالونات والألعاب الناريّة التي تكون داخل معلّبات صغيرة
ولذا كنّا نجمع تلك النقود الصغيرة التبي نحصل غليها من بغض أغنياء القرية في يوم العيد
ثمّ نسرع إلى البيت فنأكل الطعام وهذا هو اليوم الوحيد الذي نأكل فيه “بابادام” اكبيرا
واذا انتهيت من ذلك فالعمل التالي هو استئجار درّاجة للتجوّل في القرية، وكنّا نجمع لذلك خمس أو عشرة نقود، وكان هناك كوز معروف ب”كوز المال” وكان مصنوعا بالتراب، وكانت “الكشوتيات” يأتين في يوم الجمعة تحملن كيزان التراب والآنية وكان من بين ذلك كوز المال وكنت أجبر الأمّ لشراء ذلك.
وكان ذلك كوزا بالحقيقة، وعلى ظهر الكوز ثقب مناسب للنقود، وذلك مدخل النقود، ويصعب إخراج النقود إذا ألقي مرّة واحدة، وإذا صدرت أيّ حاجة كبيرة كنت أخرج بعصا صغيرة عندما تجبرني الأمّ مع حزن صغير.
نكسر كوز المال قبل يوم العيد بيوم، نرميه على السطح فنتثر النقود على سطح الأرض، وكانت في الأغلب خمس أو عشر “بيسا”وربّما يكون عشرون “بيسا” ذو اللون الذهبي، وقلّما يكون خمس عشر “بيسا” أو روبيّة واحدة
وكنت أدّخر نقودا تكفي لاستئجار الدرّاجة لساعة أو ساعتين في الأوّل، وربّما تقول الأمّ
“اشتر بعض الكزبرة والفلفل من نقودك”
إذا قالت الأمّ هذا سيتردّد ضميري حتّى أتحرّر من رغبة ساعة الأطفال وأسرع إلى دكّان “بوكراكا” لاشتراء الكزبرة والفلفل .
وفي تلك الأيّام كنّا لا نأكل ملأ البطن ولا نشوي “البابادام” ولا نشتري لحم البقر ولا الصابون الجديد ولا نرتدى الثوب الحسين ولا نطيّب أنفسنا بالعطر إلّا في يوم العيد
وكان ممّا يزيد رونق العيد آنذاك تلك الفرحات النازلة مع قدوم يوم العيد ولذلك نشعر أنّ عيد ذلك الزمان كان هو العيد، والآن كلّ يوم عيد، فما هي خصوصيّة عيد جديد !
ولا يختلف هذه الحال مع “اونم” وعيد الميلاد ووشو وغيرها من الأعياد المختلفة، ونسمع من كلّ زاوية “أيّ عيد هذا ، وكان عيد ذلك الزمان هو العيد”
أليس كلّ أيّامنا أعيادا في هذا العصر التي نأكل فيها غبّا الكبسة واللحم المشويّ ، ونلبس الزيّ الجديد ونتجوّل في الدرّاجات الناريّة والسيّارات ! أليس كذلك !