صبغة الله الهدوي
إنها كلمة تاريخية تسري في جوانح اشتياقنا وشدة تمسكنا بالمسجد الأقصى ومنارته، وتحدو لهفاتنا إلى تلك الرحاب الواسعة ونستعيد من أجنحة التاريخ قوة وحماسة فنطير فوق الأحزان المكتومة والأحلام المكسرة، الأقصى يبقى رمزا يتمثل هذه الأمة الإسلامية، ماضيها وحاضرها، وهو يبث رسالة المجد والكرامة التي ظلت صامدة تحت سرادقه، ويلهم وحدة لا تتمزق ومصفا لا يخترق، لأنه تأسر الأفئدة الآيسة وتستوقف قلوبهم وأعينهم فتسترد الطاقة المحمية في صلبهم.
وقد أحسن من قال” العطار لا يصلح ما أفسده الدهر” لكن الدهر يصفو حاله لو تغير رجاله وتطور أصحابه، والقرآن يؤكده “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” فالتغيير الرئيسي لا بد من انطلاقه من نفسه أولا ثم يوجهه إلى سائر الكائنات، فلماذا نحب الاختلاف وحده، ولا نحترم أدب الاختلاف والاعتراف، فأما الاختلاف في المفاهيم والمواقف عادة وسنة في تراث الإسلام وجارية في المسائل الدينية، لكننا نتناسى وسط هذه الضجات الكريهة كلمات لا بد من ترديدها في جوانحنا وتطبيقها بجوارحنا.
القدس في قلب الأمة
فالقدس دائما يحتل مكانة رائعة في قلوب الأمة، ويهوي رجالها لأن يصلي ركعتين تحية في داخله، فهل هي خيالات وأماني؟ نطل دائما إلى تلك القباب المذهبة ونرجو لمعانها ونقول كلما خفت لمعات القبة جفت الأمة ولبابها، وفي القباب قصص رائعة نسجتها أيادي رجالها وحكتها ثوارها، وأنا أرجو لأصف الأندلس والقدس شقيقين، فماذا بقي في الأندلس؟، دروس من الانكسار وأنقاض من الأحزان والحسرات، ثم مضت حبكة للميراثي والمسرحيات، فهل نريد أندلسا آخر ثم نوشي قصائدنا بالقنابل أم هل نريد أحدا فنعض على أناملنا نادمين على ما فعلنا على القائد.
إنها مسألة سألناها دهرا تلو دهر، وأجبناها صمتا تلو صمت. بل نريد المجد كله، بغير مساومة ولا مناداة بل بالشرعية التي خلفناها في الأمس، وبها نسأل أرباب الاحتلال حقيه العودة وتطبيق العدالة والدستور، وما زدنا وما قللنا، وما فرطنا ولا أفرطنا، بل قمنا معا ووقفنا على الخط الأبيض، فشرعية العودة حقيقة لا هي دمية تحركها الخواطر أو طائرة ورقية تهيجها الرياح والأمواج وإن انفصمت عن الخيط فلا علاقة لها عن مسقط رأسها، فالعودة حق وحقيقة ولها سهرنا الليالي ونشرنا الآلي، فكيف نتخلى عن مهمة ولاها الأزمان والأجداد.
فلماذا تجري دماء الأمة لو قيلت عن الأقصى ورحابه، فلأي شيء تثور فيهم براكين الهمة وقوة الإرادة لو شاهدوا أطفالا يرشقون حجارة، ولماذا يبتسمون مهللين مكبرين لو أصيب الجندي الصهيوني برصاصة، لأنه سر يعرفه الحيطان، ولا يعفو سريعا من عمق الميدان، لأن تلك البسمة رسالة ترسلها قلوب الوحدة والعالم الإسلامي أيضا إلى الشعب الصامد والأيادي المشتبكة، إنها وليد الاشتياق والشغف الطويل. فإذا اشتكى الأقصى فكل بلادنا أقصى وكل صلاتنا تحيته وتجلته، لأن المئذنة التي تصدع بالحق الواضح والشهادة تتبادل رسالة الغرام على متن الهواء، وتستقرئ السلام لمن في رحابه وميدانه، كأنها رسالة الوجدان لا يشوبها تشويش الأدران، فالدين يبقى، حبائلكم وإن ضعفت فحبل الله مفتول.
القدس أولا والقرطبة في البال
الرئيس صدام حسين، عندما كان نائبا للرئيس في زيارة لأسبانيا تناول الطعام مع ملك إسبانيا، وطلبه الملك أن يرافقه بجولة للعاصمة مدريد ويشاهد مناظرها وإعجازية معماريتها، لكن صدام اعتذر وطلب زيارة لجامع قرطبة، فذهبا مع موكب كبير من عظماء الدولة، ودخلوا مدينة قرطبة وقد تحول جامعها وعروسها إلى كنيسة وناقوسها، وقد هاجر منه ألحان المئذنة ونغماتها الحانية، وهي معطلة منذ قرون، فما جاء أحد ليعمره وينوره، فلما وصلوا إلى حرم المسجد الجامع أخبروا للرئيس صدام بدخول وقت صلاة الظهر، فتوقف وسئل، من منكم صوته قوي حتى يأذن، فاقترب واحد من أشياعه، أنا له يا سيدي فالتفت نحوه وقال اصعد إلى أعلى المئذنة وأرسل الأذان، فاعترت الجميع حالة من الدهشة والذهول، حتى أتم الأذان والجميع في لحظة خشوع وتورع، وقد سادهم الصمت والذعر، فبعدما تصفى الحال اقترب إليه مسؤول الموكب البروتوكولي الإسباني لصدام وقال “هذه أول مرة يرتفع منها صوت الله أكبر، ولم نسمعه منذ أن سقطت قباب مملكة الأندلس الإسبانية قبل عدة قرون” ابتسم صدام وضرب على كتفه قائلا” ما نسيناه، فالقدس أولا والقرطبة في البال”.
فلم ينطق الملك بشيء وساد الجميع حالة من الروعة والهيبة، وكم تمنينا لو تحول السراب واحة والوعود منجزة. فإن هذه الكلمة تستلهم خيالاتنا وتسوقنا إلى عالم الفخر والمجد التليد، وتدعونا إلى أن القضية الفلسطينية ليست هي قضية عربية أو إقليمية بل هي قضية الشريعة جمعاء، لأن فحواها هو استرداد الثروة الضائعة على حين غفلة من أهلها، وقد سمعنا كابرا عن كابر أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فالقوة في درب الحماية الذاتية مشروعة حقا.
لماذا نقرض المراثي؟
في ديننا توجد مرثيات عديدة، ولطميات وندبات معها، فماذا تفعل هذه الوجدانات وعبارات الآلام في مصف الأمة، لأننا نحتاج إلى الإبرة أكثر ما نحتاج إلى المقراض، فدعوتنا دعوة الوفاق والمصالحة، وربما قلت بأن الألم يبعث الأحلام والأحلام تدفع إلى الأمام، لكن أمة سئمت وبرمت من طول سجوف الليالي تكره هذه الكلمات الحزينة التي ترن وتتلى عند النعش والجنازة. أنحب صلوات الجنائز ونفضلها من صلوات التحيات والنوافل، فهذه الفلسفة لا تورث إلا نكالا ووبالا في خرق صفوفنا وجرح أورامنا، لأننا ندفع أنفسنا لإقناعها وإرضائها بهذا التصنع، فنوهن أنفسنا بإدمان الأفكار الواهية ونميت قلوبنا بهذه الترهات والأغاليط، فالمسلم القوي خير من المسلم الضعيف، لأنه يستدرك العقل ويراجع الأمور ويتصفح الأحداث. فالألم ليس دائما باعث الأحلام وليس بداعية إلى الأمام، بل له قوة الضغط والإدبار، فمن أراد الآلام واقتنع بالأورام سيظل مكتوف الأيدي في واجهة التحديات، هيا فلنحيي في قلوبنا خلايا الحياة والخلود ونشحنها ببطارية الطاقة والوجود.
نبكي أم نتباكى
لقد رأينا شعراء الجاهلية يبكون على الأطلال وعلى الديار وعلى الرحال، ويدمعون في الحلل والترحال، ولكنهم تغيروا تغيرا جذريا مذ جاء القرآن بوحي جديد وأحلى نشيد، فتحرك قلبهم وتلاحمت عروقهم وجرت دماءهم واستقامت شرايينهم، لأنهم رأوا في القرآن عجبا وقالوا عنه إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد، لكن إذا ضاع القرآن فلا رشد ولا صلاح، بل فساد ودمار، فساد في المجتمع، فساد في العقيدة، فساد في الأعمال، هكذا تجري مسلسلات الفساد والدمار. وفي الحقيقة، لقد انقضى زمن البكاء والدموع، وأقبل دهر الدماغ والعقول، وإن جمدت قريحتنا أو ركدت كليتنا فلا قدس يحيى ولا قرطبة تبقى. فإذا أضرمنا نار العقل والإحساس وأوقدنا القلوب بومضة الإيمان سيأتي الصبح بأشعته الأولى وسيبدو بمقلته وقبلته، لكن اللبنة الأولى لمفاعل الثورة والانتفاضة هي العقل وتحريك الدماغ، فالقدس أولا فالقرطبة تاليا والعالم معا.