من أجمل ما كُتب في أدب الرحلات الإسلامي الحديث، كتاب الشيخ علي الطنطاوي “مِنْ نفحات الحَرَم”..
وقد عرض فيه الشيخ رحلته الممتعة المثيرة الشاقّة إلى مكة من الشام.. في أيّامٍ ليست كمثل هذه الأيام التي طوِيت فيها الطرق وتيسّرت أمور من يرغبون الحج..
تلكم الرحلة الرائعة.. التي نفتقد الكثير من تفاصيلها.. بعد أن مضى عليها زمنٌ مديد..
عن ليالي الصحراء، ومقارنتها بالمدينة، وأثرها النفسي.. يقول الكاتب –يرحمه الله- بأسلوبه السهل الممتنع البديع:
الصحراء..تُختصر صفتها، ويوجز تاريخها في كلمتين اثنتين هما: الحب والحرب.فليلها للحب، ونهارها للحرب، حرب مع الشمس اللاهبة، والرِّمَال المُشْتعِلَة. والضَّلال والمَوْت، وحرب مع الناس، فإذا أدرككَ المساء؛ ولا يُدْرِك مساءَها إلا كُلُّ بطل صَبّار قوي متين، تَفتَّح للحب قلبُكَ، فأحسستَ فيه بشوق إلى الهيام؛ كشوق الظمْآن إلى الماء الزلال، وشعرت كأن البادية كلها مِلككَ، فأنت منها في رَوْضة وغدير، تُعانِق بَدْرها إن لم تجد مَنْ تُعانِقُه، وتسامر نَجْمَها إن أَعْوَزَك مَن تُسامِره، ويُقبِّل عارِضَيْكَ نسيمُها الرَّخيُّ الحبيب الذي يصور لك أنفاس الأحبة.
أشهد لقد نَقَّتْ ليالي الصحراء نَفْسي، وصَفّتْها، وعلّمَتْها الشعورَ بجمال القُبْح، وأُنس الوَحْشة، وأغاني الصَّمْت؛ فعرفتْ جمال الكون، فأَوْصَلها إلى معرفة كمال المُكَوِّن.
كما صهرتْ أنهارُ الصحراء عزيمتي، فألقتْ عن نفسي أوضارَ الخوف والجُبْن والضعف والتردُّد، وأشعرتْها عظمةَ الطبيعة وقوتها، فشعرتُ بعظمة الطابع.
ولم أكن أَعْدِمُ النظَرَ في الآفاق الواسعة، ولا حُرِمْتُ التحديق في المناظِر البعيدة، وإني لأُبْصِر من شباك داري دمشقَ كلَّها، وغوطتها، والقرى المنثورة فيها، لا يغيب عني من ذلك شيءٌ، فأرى فيها نهاية الجمال والرّوَاء؛ ولكني لا أرى فيها طُهْر الصحراء، ولا صفاءها.
الصحراء مبسوطة مكشوفة؛ كالرجل الصريح الشريف، ظاهرُها كباطنها، لا تُخفي سرًّا، ولا تُبطن دون ما تُظهر أمرًا، ليست كالمدن، ولا كالرياض، والله وحده يعلم كم يتوارى خلال تلك الأشجار المُزْهِرة الخضراء، وتحت تلك السقوف المزخرفة، والقباب والسطوح من رذائل ورزايا، وكم يسكنها من عوالم الكَذِب والنّفَاق والحَسَد.
إن الله حَرَمَ الصحراء رواء المدن، وروعة السهول، وفتنة الأنهار؛ ولكنه أعاضها عنه ذلك ما هو أحلى وأسمى، جمال الصدق، وبهاء الصراحة، وسنا الإخلاص، ليس في الصحراء مثل النيل ولا الفرات تأوي إلى ضفافه، وتبصر غروب الشمس في مائه، وتمخر بالزورق عُبابه، وما فيها إلا بِرَك وغدران قليلة الماء، غير دائمة، ولا باقية؛ ولكنها على ذلك أجلّ من النيل، وأجمل من الفُرات لأنها في.. الصحراء!
ليالي الصحراء..لستُ أستطيع أن أُترجم لك عما لِلَيالي الصحراء من معنى في نفسي؛ لأن لغة الألسنة لا تترجم عن القلوب، ويا ليتني أقدر أن أصِفَ لك تلك الكائنات الخفية التي تعيش في ليالي الصحراء، فتُخاطِب القلوب بما لا تنقُله الأقلام.
واشْهَدُوا على أني أُوثِر الصحراء على كل مظاهر الطبيعة المطبوعة، إلا الأودية والجبال، فإن للجبال السامِقة ذات الصخور الماثلة كالجبابرة، لا تبلغ هامَها النسورُ ولا العُقبان، ولا يسكنها إلا الثلج الأبيض، والأودية العميقة التي لا يبلغ قرارتها إلا الشلال المُتحدّر من أعالي الجبال، ولا يعيش فيها إلا السّواقي الحائرة، التي تهيم على وجهها ذاهلة، لا تصحو إلا على جرجرة أمواج البحر الذي يفتح فاهُ لابْتِلاعِهَا، وإن في الْتِوَاء الوادي حتى يضيع الطريق فيه؛ وفي اختفاء الشِّعْب الضيق خلال الصخور، وفي ضلال الساقية بين الحشائش والحجارة، لَمَعْنًى من معاني المجهول، لا أَلْقاهُ في الصحراء المكشوفة العارية؛ ولكن للصحراء سحرها وجمالها، وإني لأفضلها على السهول والبساتين.
المصدر: ألوكة نت