انطباعات شاب هندي للحج كضيف للرابطة …

د/ محمد منصور الهدوي – الهند

إنه نداء قديم جديد!  قديم لأن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام أول من أعلنه، وصدع بأمر الله حين قال له: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) وجديد لأن خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عيه وسلم ندب إليه وقاد قوافله ووضع مناسكه وبين ما رصد الله له من جوائز، وربط به من منافع، وكان آخر عهده بالجماهير الحاشدة وهى تصيح إليه فى حجة الوداع يزودهم بأحر وصاياه، وأحفلها بالخير والبر، وما زال صدى النداء الإبراهيمي يتردد في المكان والزمان، وبين السماوات والأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما زال الناس يلبون النداء، ولم تنقطع هذه العبادة على مر الزمان ومنذ ذلك التاريخ إلا في سنوات نادرة ومعدودة، المنادي هو الله، فهل يملك أحد إلا الإجابة؟

ليس الخبر كالعيان، وليس أن ترى الكعبة في الصورة أو عبر شاشة التلفاز مثل أن تراها مواجهة ليس بينك وبينها حجاب، وليس أن تقرأ كتاباً يصف الروضة الشريفة وقبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مثل أن تَسبح نفسُك في تلك الأنوار وترى طيف الصحابة وهم جالسون بين يدي معلم الإسلام الأول ،في رحلة الحج تعرف معنى التجرد من الدنيا والإقبال على الآخرة، وتستوعب معاني التعاون والتضحية والعطاء بأحلى الصور، وتفهم مفرداتٍ طالما سمعتها ولم تعايشها مثل الحرية والمساواة والعدل والإخاء

قصتي للحصول على الفرصة

وكان هذا توفيقا عديم المثيل من عند الله المنّان في حياتي ، وجاءني من قبل مجلة الرابطة نداء يحمل في طيه بشارة سارة وذلك كفائز أفضل مقال صحفي عن عام 1440،فموضوع مقالي الذي تم الاختيار عليه  “رنين الثريا :خواطر شاعرة هندية عن استكشاف حقيقة الوجود”،ليس بإمكاني في هذه العجالة  أن أعبر عن مدى فرحتي الآن  ، يا له من شعور يفوق الوصف، إنه من المستحيل أن يحصل على هذه الفرصة الذهبية وأنا في مقتبل العمر حيث لم يسبق لي الذهاب حتى للعمرة إلى مكة المكرمة  ، وهذا الشعور يعيشه الكثير من أبناء الجالية الإسلامية في الهند عموما وقريتي خصوصا ، فلولا كنت من الفائز لما نلت هذا الشرف العظيم .

في الهند قلما تستطيع الحصول على هذه الفرصة إلا وقد بلغت من الكبر عتيا، يجب أن يتجاوز عمرك الأربعين أو ما يزيد  على الأقل حتى تحظى بفرصة قد لا تكون حقيقية فأحمد الله كثيرا أن وهب لي هذا الفضل العظيم لزيارة بيته العتيق وانخراطي في سلك هذا الاجتماع العالمي الكبير، حيث ملايين المسلمين من كل أنحاء العالم يشاركون في هذا المؤتمر الكوني الرهيب الضخم .

وكان كل همّي أن يكون حجي مقبولا، فكثير من الناس كان يسأل عن كيفية أداء ، أما يالنسبة لي  فكان همها القبول، وكنت أستحضر الأدعية التي أريد أن أقولها في الحج، فدعاء الحج مستجاب، والمرء يعود نظيفا من ذنوبه وخطاياه كيوم ولدته أمه ، وإن الرحلة المقدسة إلى الحج تجسيدٌ لقولنا إنا لله وإنا إليه راجعون، نحن بذلنا المال والوقت حتى نصل إلى تلك البقعة المباركة، يحدونا الأمل في أن نكون ضيوفا حقيقيين على الرحمن، لأن ضيف الرحمن يلقى من الإكرام والقبول الشيء الكثير، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا.

بداية رحلتي تجاه مكة

وتبدأ التحضيرات المادية والمعنوية للحج، من شراء  الملابس المريحة والاحتياطات الطبية والمظلات وملابس الإحرام، أما معنويا فخير الزاد التقوى، وأفضل الذكر لا إله إلا الله وانطلقت رحلتي المشرفة نحو البلد الأمين من مطار كاليكوت قرب مدينتي ملابورم ،وموقف الباصات في بيت الحج  بمدينة كاريفور في كيرلا ، وهي ترصد لي لحظات الانطلاق لهؤلاء الضيوف الذين أنعم الله عليهم بهذه الفرصة الذهبية، وتتراوح مراحل السفر بين الراحة وطول المدة في الطائرة، حتى هبطت طائرتي في مطار الملك عبد العزيز بجدة ،وكان مندوب الرابطة ينتظرني في صالة استراحة الحجاج المسافرين بلافتة مكتوبة فيها رابطة العالم الإسلامي، وحصلت لتوه على الشنطة وتمام إجراء أمور الخروج،وحافلة الرابطة واقفة في الخارج ،وكان معي ضيوف من الشيشان أيضا،ثم جئنا إلى منى حيث يقع فيه سكن الضيافة للرابطة ،دخلته ليلا ،وغرفتي محجوزة في الطابق الرابع مع المندوبين من أمريكا ونيجيريا ورواندا ،وما لبث إلا قليلا بعد العشاء والحاجات اللازمة سقطت على سريري فنمت طويلا ،ثم استيقظت الساعة الثالثة صباحا حسب الإخبار  المسبق من  قسم العلاقات العامة عن تحرك الباص إلى الحرم،فوصلت إليه مع قلب يتدفق ويساوره لوعة وروعة ،لحظات من الضياع لا أنسى أبدا مررنا بها ،وأنا أقف في الحرم ،وفي هذا الجمع الكبير ،يضل الكثيرون ،ويفقدون الطريق ،وهناك مراكز للحجاج الذين تاهت بهم سبلهم …….حتى ملأ جوفي استبشارا وانبساطا كدت أن أبكي جهرا ،مشاعر مفؤودة من حاج مسرور…….وبعد خطوات غير معدودة  فأجد أمامي تلك البناية المقدسة التي طالما تمنيت أن أراها بأم عيناي ،فانهمرت الدمعات هتونا ،وتحقق حلمي ،وها هي الكعبة أمامي…….

رؤية الكعبة : فرحة لا تعادلها فرحة

لا توجد لذة تضاهي لذة رؤية الحرم المكي والكعبة المشرفة لأول مرة، ولا شيء يطرب الآذان ويشنف المسامع مثل ترديد “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”، ولا شعور بالفخر  يوازي أن تلقى إخوانك في الدين من كل الأعراق والألوان من شتى أصقاع المعمورة، يلهجون بصوتٍ واحد، يتطلعون إلى رب واحد، ويلبسون ملابس واحدة، حاجاتهم مختلفة، وأدعيتهم كذلك، لكن مشاعرهم جميعا تتوحد على الأمل نفسه بالقبول والإجابة، إنهم في ضيافة أكرم مسؤول، وجميع شخوص هذا الحشد من ضيوف الرابطة  أجمعوا على أن رؤية الكعبة لأول مرة كانت علامة فارقة في كل حياتهم،وأما الأخ الفاضل من أمريكا أنوكا باسل أردف قائلا: إنه شعر بتصاغر هذا الكون وجميع المخلوقات فيه أمام عظمة الخالق وجلاله سبحانه وتعالى، وكأنما أدرك مدى حاجته وافتقاره إلى الله، إلى عفوه ومغفرته ولطفه ورحمته، وأنه سبحانه هو الغني الحميد.

ويضيف باسل  : عندما رأيت الكعبة للمرة الأولى في حياتي أدركت أن هذه اللحظة تستحق كل الجهد والتعب والمال الذي أنفقته، تستحق كل مشقة السفر والمعاناة التي واجهناها وعيناه تذرفان من الفرح والسرور. وكان هذا الشخص الذي مهّد لي الطريق لكي أقبل الحجر الأسود في اليوم التالي .

وكان الزحام شديدا، وبالكد أخطو مع أخى باسل ، بل أنا أطوف حول الكعبة بالقصور الذاتي والدفع الخارجي، كانت رائحة ملايين البشر تزكم أنفي لدرجة الغثيان، ولكن كلما تذكرت أنني قدِمت من آخر الدنيا تلبية لنداء الله، أستهين بكل المعاناة التي حولي، وأشعر بانقطاعي عن كل هذا الكون وركوني إلى الرب العظيم وحده سبحانه.

كلانا أنهينا الآن طواف القدوم، ومناسك العمرة للمتمتعين، إن مناسك العمرة استغرقت أربع ساعات، كان التعب الشديد والإرهاق باديا على الملامح والوجوه، ولكن كانت هنالك سكينة وطمأنينة لم نعهدها من قبل، ولسان حال الجميع يقول إن الأجر على قدر المشقة ، ولذلك فإن إليام محمدوو من الشيشان يقول : من حسن حظي أنني حججت وأنا شاب يافع، إنني أتحمل المشقة وأستطيع أن أساعد الناس، لقد ساعدت امرأة مسنة في الطواف، كنت أدفع كرسيها المتحرك حول الكعبة حتى أتمّت الطواف، الحمد لله

إنني الآن نستغلون ما تبقى من الوقت في الصلاة والاعتكاف وقراءة القرآن في بيت الله الحرام، فخلال أيام محدودة سوف أتوجه عرفات لبدء مناسك الحج،ونحن أغنياء عن الذهاب إلى منى حيث كان سكن الضيافة للرابطة واقع في قلب مشعر منى ، وهذه فرصة للتزود من عظيم الأجر والثواب في جوار الكعبة، فصلاة في المسجد الحرام تعدل مئة ألف صلاة فيما سواه من البقاع، هكذا بشّر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وفي الثامن من ذي الحجة، الذي هو يوم التروية، يتوجه الناس إلى مِنى ويبيتون فيها استعدادا للانطلاق إلى جبل عرفة

يوم التروية.. يوم الدعة والراحة

في الثامن من ذي الحجة، الذي هو يوم التروية، يتوجه الناس إلى مِنى ويبيتون فيها استعدادا للانطلاق إلى جبل عرفة في التاسع منه، وسمي يوم التروية لأن الناس في القديم كانوا يستقون فيه من الماء ويسقون دوابهم ومواشيهم استعدادا ليوم طويل وشاق،

والضيوف كلهم طبعا  كانوا  متحمسين  ومتشوقين  إلى هذه المغامرة الجديدة كما يسمونها، هي فرصة ثانية للتقرب إلى الله، ولكن بشيء من الراحة والهدوء هذه المرة لم يعهدوها عندما كانوا في مكة،لأن الإحرام للحج سيكون لمدة أطول من الآن فصاعدا، وستتجلى فيه معاني الانقطاع عن كل متع الدنيا وملذاتها، مظاهره المادية تتجلى في الابتعاد عن الزينة في اللباس والطيب وتهذيب الشعر وأكل الصيد الذي حرمه الله، وتتجاوز إلى المظاهر المعنوية في الابتعاد عن الذنوب صغيرها وكبيرها، والابتعاد عن الغيبة والنميمة والظلم، وتتعدى المظاهر المعنوية إلى الشعور بالمساواة والعدل والأخوة، والتحرر من كل أنواع العبودية إلا لله  وتتنقل الكاميرا بين الخيام في منى ليلا ونهار ، تنطفئ الأنوار ويستعد الحجاج لأخذ قسط من الراحة والنوم قبل البدء بيوم شاق وطويل، إنه يوم عرفة، أو يوم الحج الأكبر كما في بعض التفاسير، أو الركن الأعظم في الحج، والذي قال عنه صلى الله عليه وسلم “الحج عرفة”، ومن المظاهر المعنوية للحج الشعور بالمساواة والعدل والأخوة، والتحرر من كل أنواع العبودية إلا لله.

في عرفات.. يوم الله الأعظم

بعد وقت قليل من التحرك في الباص الخاص للرابطة وصلنا بمشيئة الله المخيمات ذات التسهيلات المتطورة بعرفات ،والله كان هذا أيضا رائعا بكل معنى الكلمة فجيمع الأمور قد تم تجهيزها بشكل منظم ، وكنا نحن ننتظر تلك اللحظات الحاسمة في حياتنا ، هذا يوم الله الأعظم، هذا الذي يعتق فيه الله الرقاب من النار، هذا الذي يعطي فيه الله على الذكر والدعاء ما لم يعط قبلُ قط ولا بعد، هذا اليوم الذي تشرئب فيه الأعناق إلى خالقها، ترجو أن تنال فيه الجائزة الكبرى؛ العتق من النار والتطهر من الذنوب ،لا شك في أن التعب كبير، والمشقة مجهدة، وحر الشمس يلفح الوجوه،

 ولكن هذا كله يهون في مقابل الجائزة العظيمة وتجليات الملك الرحمن في آخر النهار، كان الفريق يتخيل أن ساعات النهار ستكون أطول من الذكر والدعاء الذي حضّروا أنفسهم له، ولكن ما إن بدأ الوقت بالتسارع حتى أيقنوا أنهم بحاجة إلى المزيد منه للتعرض إلى نفحات الرحمة والطمأنينة والسكينة التي تهب عليهم، وكما أن كلنا أو جلنا حافظوا على أيديهم كتيبات الأذكار ليتلوها، ولم يكتفوا بذلك، ولكن بعضا منا  دوَّن عليها كل من استطاعوا أن يستذكروا من أهلهم وأقاربهم وأصدقائهم في الطفولة، وأصدقائهم من العمل،  متيقنين أن هذه الدقائق المعدودة التي قد لا تتكرر في الحياة كلها، أثمن وأغلى من أن تضيع في المباحات فقط، ناهيك عما نهى الله عنه من الرفث والفسوق والجدال، وكما كانت رؤية الكعبة حدثا مفصليا، فإن النفرة من عرفة عند الغروب هي الحد الفاصل بين الدنس والطهارة، بين أكداس الذنوب والخطايا وبين شفافية المغفرة وسمو الروح والانعتاق من ربقة الطين والتراب .

يشعر المرء وهو يغادر هذا الصعيد الطاهر بأنه خفيف النفس منطلق الفؤاد نشيط الفكر والعقل متوقد الشوق إلى ما عند الله، يشعر أنه ولد من جديد، يستشعر معنى قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم “رجع كيوم ولدته أمه”

مشعر “مزدلفة” .. ليلة آلاف النجوم

يبدو أن تجاربنا الحلوة لا تنتهي طوال هذه الرحلة المباركة، ففي مزدلفة الآن أكثر من مليونين ونصف حاج يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويعدّون النجوم كأنها أشبه  بفندق ذي آلاف النجوم، وليس خمس نجوم فقط، ومكوثنا أيضا فيها باتجاه مسجد المشعر الحرام ،في مكان جميل ومخيم بأحسن تقويم وتركيب ، وليس باستطاعتي أن أشكر الله على هذا النعم الجليلة ومسؤولي الرابطة .

كلنا نمنا كأسرة واحدة ، لم يكن نوما طويلا ولكنه كان عميقا بقدر التعب والمشقة التي واجهناها  طوال النهار الفائت ، إلا أن النزر اليسير  لم تكتحل عيونهم بالنوم ، كانوا يتفكرون في يوم القيامة، إنه شبيهٌ بحالهم الآن، لا متاع ولا لباس ولا فرش ولا غطاء، إنما هو العمل والتقوى والخوف من الجليل، وانتظار الرحمة والفرج والمغفرة من الغفور الرحيم، ينتظرون الفجر، ويقضون وقتا في التقاط الحصى لرمي الجمرات، ويلهجون بالتلبية، ألوف مؤلفة من الناس، وبنسقٍ واحد ما زالوا يرددون “لبيك اللهم لبيك”، في يوم الحج الأكبر يرمي الحجاج الجمرة الكبرى بسبع حصيات.

يوم الحج الأكبر ورمي الجمرة الكبرى

وسمّي كذلك لأن معظم أعمال الحج تتم فيه، والذي يليه من الأيام إنما هو تكرار، ففي هذا اليوم  رمينا الجمرة الكبرى أي العقبة بسبع حصيات، وحرصنا على ذلك قبل الظهر، ثم توجهنا إلى مكة لطواف الإفاضة والسعي، ثم  حلقنا على الرخصة والسَعة في التقديم والتأخير بين هذه الأعمال، يقول يعقوب من نيجيريا  عن رمي الجمرة الكبرى إنه كان ميسّرا وسريعا، ويقول إنهم سلكوا الطريق بين منى والجمرات عبر أنفاق المشاة، استغرقهم ذلك بين 40 و45 دقيقة مشيا على الأقدام، وعلى الرغم من كثرة عدد الحجاج فإن ذلك تم بسلاسة ويسر،فأثنى على خدمات خادم الحرمين الجلية للحجاج المسلمين .

وكنت أحلق شعري لأول مرة منذ أن كبرت وبلغت أشدّي أنا ، ، إنه من المشاعر الأخرى الغامرة واللحظات التي لا تتكرر، ويؤدي الجميع طواف الإفاضة، كان مرهقا للغاية، ولكن لا أدري من أين أتتني كل هذه القوة، الحمد لله،بعده أكملنا الطواف في أكثر من ساعتين وسط زحام كثيف من الناس، لا بد أن هذه قوة من الله أعطانا إياها حتى نذكره كثيرا ونسبحه كثيرا، ثم توجهنا إلى السعي بين الصفا والمروة، وهكذا أتممنا منسك سعي الحج.

 يوم العيد ؛ولتكبروا الله على ما هداكم

يشرق يوم العاشر من ذي الحجة حاملا معه ذكراً احتفاليا جديدا، هذا الذكر يشترك فيه المسلمون في كل زوايا  الدنيا وليس في أرض المشاعر وحدها، تنطلق حناجر المؤمنين “الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد”، إنها احتفالية العيد الكبير، ومن منا لا يفرح إذ يسمعها؟ وتمضى أيام وليالي منى في دعة ويسر وسهولة، يشعر فيها الناس بالأخوة والتواد، وعلى مدى أيام معدودة ترى لك جيرانا جددا غير جيرانك، وأهلا وإخوانا غير إخوانك، تستشعر قول الرسول الكريم “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد” أو كما قال صلى الله عليه وسلم. لا شك في أن باسل الأميركي وإليام الشيشاني  يستوعبان تماما معنى الأخوة الجديدة

وتتوالى أيام التشريق الثلاثة تباعا، ويشعر أصحابنا بقرب الرحيل، أرى في عيونهم فرحة غامرة أن أدوا ركنا عظيما من أركان الدين، وأشعر بشيء من الغصة في قلوبهم لأنهم سيفارقون هذه الأرض المقدسة عما قريب، كأنهم سيعودون إلى الحياة الدنيا الاعتيادية بعد ما عاشوا أياما معدودات بجوار الرحمن في جنات النعيم ، يؤدون طواف الوداع، ويتوجهون إلى الكعبة المشرفة بأعين حزينة خشية ألا يكون هنالك لقاء آخر، وبقلوب راجية أن يقر الله أعينهم بموعد آخر قريب.

زيارة المدينة :حلم عالق على شغاف قلبي

كان نفسي تتهامسني الفينة والأخرى ” لئن كنت حزينا على فراق البيت العتيق، فإن في القلب عزاءً ولهفة وشوقاً للقاء الحبيب محمد في المدينة المنورة، والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وتنبعث في الأرجاء أصداء الدفوف مرحبة بقدوم الحبيب “طلع البدر علينا”،  وقد آثر سائقنا للحافلة أن يستصحب موسيقى هذا النشيد العظيم ونحن نلقي تسيار رحلتنا  نحو الحرم النبوي الشريف،توقفت العربة بمحاذات الرصيف المواجه للقبة الخضراء الشريفة قرب مسجد بلال ،عبرت الطريق إلى بوابة رقم 2 بتؤدة .

سكينة وتأهب …….حالان طفحاني روحا وجسدا بمجرد نزولي المدينة المنورة ،حتى ان خطوي تبدل إيقاعه،وصارت نظراتي معاني أخر ،ومرامي كثيرة ،فكل هذه الجبال المحيطة رآها المصطفى ،صلى الله عليه وسلم ،بعينيه ،وتلك الأرض وطأها بقدميه ،فربما أضع عند المشي خفي في نفس المكان ،وما ذلك النخيل المتجاور ،المتراص،إلا من نسل النخيل الذي أظل الرسول وصحبه يوما ،دموع تلقائية ،غزيرة ،مصحوبة بحزن شفاف،لقد عرفت في حياتي أنواعا من البكاء ،ولكن عبراتي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مستعصية على أي تفسير يلوح لي .

وأستحضر طيف النبي الأمين، وصور مئات الصحابة الكرام يغدون ويروحون من كل أبواب المسجد المقدس، وصليت  في الروضة الشريفة وهبت علي نسائم الجنات، إنه الآن خارج حدود الزمان والمكان، إنه يسبح في بحار النور السرمدي، يسلم على قبر الرسول وصاحبيه الكريمين، ويكاد يشتَمُّ رائحة المسك وطيب الجسد المسجى الكريم ، ولم أفوّت الفرصة لزيارة بعض المعالم التاريخية في المدينة، فقد زرت جبل أحُد واستمع إلى عرض موجز عن إستراتيجيات المعركة الخالدة التي شهدها الرسول والصحابة الكرام ضد قوى البغي والظلم، ثم توجهت إلى مسجد قباء، أول مسجد بني في الإسلام، والذي قال عنه الرسول الكريم إن صلاة فيه تعدل عمرة، وبالطبع كانت لي وقفات في مقبرة البقيع، حيث يرقد هناك الكثير من الصحابة والتابعين الأجلاء

وداعا لك يا أم القرى وطيبة……..

رحلتي مع هذا الفريق المميز  المكون من كوكبة الشخصيات البارزين من شتى نواحي العالم بما فيه أميركا ،البريطانيا ، الروسيا ،أرمينية ، الفرنسا ،ألمانيا  وما إلى ذلك على وشك الانتهاء ، إنهم يودعون بعضهم بعضا وعيونهم تذرف الدمع حارا، كأنما عاشوا سويا منذ عشرات السنين، هذان الأسبوعان حملا لهم جميعا ذكريات لا تُمحى، إنهم يتعاهدون أن يحفظوا عهدهم مع الله ومع أنفسهم أنهم سيبدؤون حياة جديدة كلها قرب من الله والتزام بتعاليم الإسلام وتعاون مع كل الناس على البر والتقوى، وتعاهدوا أيضاً على ألا يفوتوا فرصة اللقاء ثانية هنا إذا ما جاد عليهم الزمان بمثل هذه النعمة العظيمة مرة أخرى

وكان الانطباع الواضح أن كل شيء قد تغير، في سلوكي ونظرتي وفلسفتي في الحياة، وفي تعاملي مع الناس، وفي طريقة أدائي لأعمالي الخاصة، وقبل كل هذا في علاقتي مع الله، كانت أيام الحج مدرسة حقيقية تعلمت فيها ما لم أتعلمه على مدى سنوات حياتي،الحمد لله ،وبالتوفيق.