بقلم السنوسي محمد السنوسي
قد لا نجد كثيرًا من العلماء والباحثين من يتجاوز تخصصه العلمي الدقيق إلى تخصصات أخرى تتيح له رؤية أشمل، ومعرفة أعمق، وتناولاً أكثر رحابة للموضوع محل الدراسة.. وأيضًا، قد لا نجد كثيرًا من يتجاوز أسوار الجامعة وطبيعة العمل الأكاديمي إلى آفاق الحياة الثقافية العامة، مشاركًا وموجِّهًا وفاعلاً في التوعية والثقيف والمناقشات التي تثري العقول وتنوّر الأفهام، وتجعل الثقافة والفكر والأدب موضوعًا للتناول العام، وليس للدرس المتخصص فحسب..
ومن هؤلاء وأولئك الدكتور محمد رجب البيومي، الأديب المصري، ورئيس تحرير مجلة “الأزهر” الأسبق، الذي مرَّت علينا منذ أيام ذكرى وفاته العاشرة؛ فقد كان- رحمه الله- متنوع العطاء في ميادين مختلفة من الأدب والبلاغة والفكر والشعر والقصة والتاريخ وقصص الأطفال؛ بجانب تضلعه من العلوم الإسلامية؛ مع إسهاماته الثرية في الحياة الثقافية على مدى أكثر من نصف قرن، عبر كبريات المجلات والصحف؛ مثل “الرسالة”، و”الثقافة” و”الهلال” و”الأدب الإسلامي”، ومجلة “الأزهر” بطبيعة الحال، التي عرفته كاتبًا بارزًا من كُتابها، قبل أن يتولى رئاسة تحريرها.
وُلد الأديب والكاتب الموسوعي عام 1923 بمدينة المنزلة بمحافظة الدقهلية بمصر، وتخرج في الأزهر ونال “العالِمية” من كلية اللغة العربيّة بـالقاهرة عام 1949، و”الدكتوراه” في الأدب والنقد عام 1967. ثم تولى عمادة كلية اللغة العربية بالمنصورة، وكان أستاذًا متفرغًا للأدب والنقد بجامعة الأزهر. وتُوفي، رحمه الله، يوم السبت 2 ربيع الأول 1432هـ، الموافق 5 فبراير 2011م، عن ٨٨ عامًا. ودُفن عصرًا في قريته “الكفر الجديد” بالدقهلية([1]).
حياة من العطاء
وقد أُتيح لأديبنا الكبير أن يتعرف عن قرب على رجالات الفكر والأدب في مصر وعدد من الدول العربية، وعُرف بتلمذته المباشرة للأديب الكبير زكي مبارك، وللعلامة محمد فريد وجدي، وللكاتب الكبير محب الدين الخطيب ؛ مما جعله جديرًا بأن يؤرخ للنهضة الإسلامية في العصر الحديث، في عمل ضخم توزع على 6 مجلدات، وشكَّل إسهامَه الأدبي والفكري الأكبر الذي عُرف به.
ولأن أديبنا الراحل عرف الإبداع شعرًا ونثرًا وقصة، فقد تميزت كتاباته بأسلوب أدبي رائق؛ حتى لترى نثره يفيض شاعرية، وكتاباته تتوهج إبداعًا..
ترك الدكتور البيومي عدة مؤلفات تشهد بموسوعيته وتعدُّدِ مجالات إسهاماته، وأربعة دواوين شعرية (صدى الأيام. حنين الليالي. حصاد الدمع. من نبع القرآن)؛ فضلاً عن مئات المقالات بالمجلات والصحف لما يزيد على نصف قرن، كما أشرنا. ومن أبرز مؤلفاته: البيان القرآني. خطوات التفسير البياني. البيان النبوي. أدب السيرة النبوية عند الرواد المعاصرين. الأدب الأندلسي بين التأثر والتأثير. النقد الأدبي للشعر الجاهلي. الأزهر بين السياسة وحرية الفكر. النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين (٦ أجزاء). محمد فريد وجدي- الكاتب الإسلامي والمفكر الموسوعي. مصطفى صادق الرافعي- فارس القلم تحت راية القرآن. أحمد حسن الزيات بين البلاغة والنقد.
تأريخ النهضة الإسلامية
يأتي كتاب الدكتور البيومي: (النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين) ليشكِّل حجر الزاوية في منجزه الثري؛ وقد كتب هذا التاريخ إدراكًا منه لحاجة الأجيال الناشئة إلى قدوات تسير على دربهم.. ووعيًا منه بضرورة إنصاف هؤلاء الأعلام ومعرفة قدرهم، لاسيما أن كثيرًا منهم تجري بحقهم محاولات تعمية مقصودة؛ نظرًا لِمَا كانوا ينتهجونه من آراء ومبادئ غير مرحَّب بها ممن يعادي أصالة الأمة وذاتيتها، ويريد لها طريق العوج الفكري والاغتراب في الهوية والانتماء.
ولا يفوتنا أن نلاحظ أن الأعلام الذين احتفى بهم أديبنا الكبير، قد تعددت مجالاتهم الفكرية والأدبية، ما بين شاعر وأديب ومفكر وفيلسوف ومؤرخ وفقيه ومحدِّث ومفسِّر وداعية ومصلح.. إلى غير ذلك من مختلف التخصصات العلمية والعملية؛ ومع ذلك تجد د. البيومي قد أجاد في التعريف بكل عَلم من هؤلاء، وربما التعقيب على بعض آرائه، كأنه- أي البيومي- قد تخصص في مجال الشخصية المترجَم لها؛ مما يدل كما نوهنا على موسوعية فكره وثراء قلمه.
وقد حرص د. البيومي في تاريخه لأعلام النهضة، على ألا يقدم لنا سِيَرهم الذاتية في ثوب مَدْرسي يهتم بالتسلسل الزمني، من الميلاد والنشأة والدراسة والحياة العملية ثم الوفاة، وبأسلوب جاف يزدحم بالأرقام والتواريخ.. وإنما عَمِلَ على تقديم سيرة فكرية حيّة، يمتزج فيها الأدب بالتاريخ، والمعرفة المباشرة من اللقاءات والذكريات بما دُوّن ونُقل في كتاباتهم وكتابات الآخرين عنهم، مع اهتمام بالغ بجوهر الإسهام الفكري والعملي الذي حفر لهذه الشخصية أو تلك مكانًا بارزًا في سجل نهضتنا الإسلامية المعاصرة.
يقول رحمه الله: “هذه النهضة النشيطة في حاجة ماسّة إلى مَن يَفِيها حقها من الدراسة والتقييم. وقد اخترت أن أتحدث عنها في ظلال أبطالها من أئمة المسلمين، لا لأترجم لحياة هؤلاء الأبطال، فما أقصر همّة تتّجه إلى رصد سنوات الميلاد والرحلة والوظائف والوفاة، إذا جعلت ذلك غاية جهدها المدوّن بين السطور؛ ولكن الحديث المثمر هو الذي يكشف عن أعمال المصلح، ويفسّر دوافعه الذاتية، ويقدّر جهاده الدائب فيما اعترضه من صعاب؛ وإذ ذاك يتّسع المجال للحكم العادل من المؤلِّف، والاطمئنان الواعي من القارئ الحصيف”([2]).
ويضيف: “وإذا كان هناك من يؤرّخون للنهضات في ظلال مُثُلِها المرموقة، واتجاهاتها الهادفة؛ فإن تأريخ هذه النهضات من حديث أبطالها يقدّم الوجه الثاني من هذا التاريخ؛ وهو لون يجد الترحيب من قرائه، إذ يتخلله من المتعة العقلية والنفسية ما يساعد على استيعابه وتمثيله، وبخاصة إذا كان العاملون تحت راية الإسلام لا يجدون التقدير المنصف من رجال الإعلام في دنيا الصحافة والإذاعة على أوسع نطاق يجذب أنظار الجماهير! وهو إهمال تبحث عن دوافعه الأليمة فيلفحك شرار الغضب، وبخاصة حين تجد الترويج الرخيص لأناس لم يبلغوا مِعشار ما بلغه هؤلاء المكافحون؛ ولكن الغرض يعمي ويصمّ، فلا أقل من أن يقوم تلاميذ هؤلاء المستشهدين في حومة الإصلاح الديني بحقهم الأكيد في الاحتفال والتنويه”([3]).
ولا يتسع المقام لنذكر من ترجم لهم “البيومي” في عمله الموسوعي هذا، وإنما يكفي أن نشير إلى أنه قد طوَّف بنا في رحاب شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال، والفقيه البارز محمد أبو زهرة، والداعية الكبير محمد الغزالي، وأعلام الأدب والفكر والإصلاح: العقاد والزيات وهيكل والرافعي ورشيد رضا وشكيب أرسلان والمرصفي وبن باديس والمودودي والخضر حسين وعبد العزيز جاويش وعبد الوهاب عزام، وغيرهم..
معارك الفكر والأدب
يتميز أديبنا الكبير، رحمه الله، باطلاعه العميق على المعارك الفكرية والأدبية، خاصة التي شغلت النصف الأول من القرن العشرين، وكان مطلعًا على خفاياها اطلاع الخبير.. وهذا جانب مهم من حياتنا الثقافية؛ لأنه يطلعنا على الطريقة التي شكّلت العقول ووجّهت الأفكار، وشاركت في صياغة الواقع الفعلي..
ود. البيومي ينطلق في رؤيته للأشخاص والأحداث من التمسك بالهوية والانتماء للأمة والحفاظ على تراثها وشخصيتها، ودون أن يدفعه ذلك لاعتساف الرأي أو التجاوز في النقد.
ولنطالع هنا تعقيبه على معركة كتاب (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين، والذي كان فاتحة سجالات ممتدة؛ إذ يقول، مستبطنًا الدفاع عن موقف الأزهر الذي شغب عليه البعض: “إن الدكتور طه حسين لو قصر حديثه على الأدب الخالص، ما تعرض له الأزهر في شيء؛ لأن النقد الأدبي لا يثير علماء الدين- بل منهم من تخصص فيه عن جدارة واقتدار- كما لا يهيج جمهورًا ولا يدفع إلى قضاء وإلى محاكمة ولا يشغل نوابًا ووزراء وشعبًا؛ ولكن الدكتور ترك النقد وتصدى للقرآن دون ضرورة أدبية ما؛ فأعلن أن القرآن قد تحدث عن إبراهيم، ولكن حديثه ليس من الضروري أن يثبت وجوده. وأفاض في هذا المنحى بما ظهر أنه منقول عن المستشرق الإنجليزي (مرجليوث) حرفًا بحرف! ومِن وراء إنكار ذهاب إبراهيم إلى مكة نفي بناء البيت ورفع قواعده، ونفي صلة إسماعيل بالعدنانية! هذا الإنكار الصريح لحقائق القرآن، ماذا يُنتظر من الأزهر بإزائه؛ أينتظر منه أن يسكت عن هجوم سافر نقله غافل عن حاقد! وإذا سكت الأزهر، فما رسالته إذن في الحياة؟ وعلام يرتكز وجوده إن لم يكن خطَّ الدفاع الأول عن حقائق القرآن ومقررات الإسلام؟”([4]).
ويوضح د. البيومي الفرق الشاسع بين حرية الفكر المقبولة وغيرها، فيقول: “إن الحرية الفكرية التي تستند إلى المنطق السليم، والتاريخ الواقعي والنص الصريح، لا يحاربها عالم من العلماء الأصلاء أزهريًّا أو غير أزهري؛ بل هي باب التقدم المطرد، والاكتشاف المثمر. أما الحرية التي تعتمد على النقل المبتور، والاستنباط السقيم، والاختلاس من ذوي الغرض من المستشرقين؛ فهذه ليست حرية، ولكنها فوضى؛ فَلنُسم الأشياء بأسمائها الصحيحة، لنعرف الخطأ من الصواب، والصحيح من السقيم”([5]).
لقد كان الدكتور محمد رجب د البيومي صاحب قلم سيّال جوّال بديع.. كثرت تآليفه، وتعددت مجالات فكره وإبداعه.. وترك، رحمه الله، فراغًا لم يُسد، وثراءً لا يطاوَل..