بقلم:محمد إسماعيل الهدوي-جملشيري
قد أنجبت ولايتنا ثلّة من العلماء الربانيين الذين تصدّروا في إرشاد القوم إلى الملة الحنيفية وتربيتهم بالتربية الربانية وتصفيتهم بالحقائق الصوفية، قاموا بمسؤولياتهم الدعوية أحسن قيام ، وبذلوا نفسهم ونفيسهم الثمينة بأحسن مجال، قد ارتووا من المناهل الصافية وتشبعوا من المعين العذب، فأنبتهم الله نباتا حسنا يثمر بإذنه، وتنفّع الناس منهم جيلا بعد جيل حينا بعد حين، منهم الشيخ التقي المرحوم محمد مسليار ابن كنجين مسليار المشهور ببافوتي مسليار الفرفوري، تغمده الله برحمته وصبّ عليه شآبيب رأفته.
أسرته وولادته
ولد الشيخ رحمه الله في أسرة البكري المنتمية إلى الخليفة أبي بكر الصديق رحمه الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجيب الأبوين الصالحين وكريم الطرفين النسيبين، في سنة 1950 الميلادية، كان أبوه الشيخ كنجين مسليار عالما ورعا ترعرع في حجر والديه وتأثر بصلاحيتهما وتأدب بأدبهما منذ نعومة الأظفار، وتلمّذ من أيمتّي ملاّ، ثم من ممّد مسليار الكافادي من المسجد الجامع في شمّنكدو قرب كودور، ثم من كنجلوي مسليار التازكودي في مسجد الجامع في تازكود، وبعد ذلك ارتحل إلى الكلية الجمالية في مدراس، حتّى ظهرت نباغته في الكتب الإسلامية وفي اللغات الإنجليزية والأردية والتاميلية مع العربية، وبعد فراغه من التعلم الرسمية لم يزل مدرسا في المسجد الجامع في إرمبالشيري، ومع ذلك كان يتلمذ من كنج أحمد مسليار الإرمبالشيري، كان أم بافوتي مسليار مرأة صالحة عابدة تردد قراءة القرآن وتحب المتعلمين وتكرمهم بالهدايا المتلونة من الأطمعة المتنوعة وما إليها، نشأ بافوتي مسليار في حجرها بتربية والده، وكان له ثلاث أخوات هن فاطمة وخديجة ونفيسة، ومن الجدير بالذكر أن والده كان يوصي كل من يأتي إليه ويزوره في بيته من الأولياء والمتقين بالدعاء لأولاده خاصة لولده، وأي شيء أكبر شهادة من حياته المفتوحة لدى معاصريه على تأثره بهذه الأدعية؟!.
تعلم الأستاذ بافوتي مسليار أولا من أبيه الحنون ثم من محيي الدين مسليار الكرنجافادي، وكنج مسليار الأوركمي، وكنج محمد مسليار الجرشولي، وموسان كتي مسليار، قد حظي بعناية فائقة عند الأساتذة ببنوته لأبيه الموقر، توفي أبوه سنة 1970 الميلادية وابنه بافوتي مسليار في عنفوان الشباب وعمره عشرون فقط، وقد نصب في كرسي أبيه وصار مفر الناس ومأواهم وآخر الكلام في أمورهم الدينية والمادية أيضا، واستطبوا منه لأمراضهم القلبية والجسمية وما إليها،
كان الناس يأتي إليه بعد وفاة أبيه بأموال النذر على كنجين مسليار المرحوم، فأسعف بها الفقراء والصعاليك، ثم خطر على باله فكرة جديدة، وهي بناء منبر علمي في تذكار أبيه يستضيف بعض المتعلمين ويتعلمون فيه العلوم الدينية والمادية معا، وينفق في إدراته ما يأتي إليه نذرا على أبيه وما إليه، فتم بناء معهد ديني وصار بعد بضع سنوات ثاني الكليات المتابعة للمنهج الدراسي لجامعة دار الهدى الإسلامية، وهي كلية سبيل الهداية الإسلامية.
خصاله المحمودة وشخصياته الفريدة
كان الشيخ رحمه الله يتفرد ويتميز بشخصية فذة وخصال عدة، جمع بين النعمتين الجليلتين العلم والمال، وأنفق منهما آناء الليل وأطراف النهار، حتى صار عَلما مغبوطا يتسابقه الفضلاء والنبلاء، وفي الحديث المروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فسلّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها.
كان قاضيا في بلد إقامته وبعض القرى المجاورة له، وملجأ المظلومين وثمال الملهوفين وطبيب العلائل ومأوى المساكين، يشتكون إليهم أحزانهم وأوجاعهم، فيواسيهم ويسلّيهم بكلمات طيبة ويعالجهم بالأذكار النبوية والآي القرآنية والأدوية الصحية، فما يعطونه من المال عن طيب النفس هو رأس مال كليته سبيل الهداية، وقد عاش كثير من العيال في كنف ماله وحضن ثروته، كان من كتلة الأتقياء حيث لو أقسم على الله لأبره، وفي قيد الحياة آلاف من الناس الذين لكل واحدهم أكثر من تجربة تبرر هذه الحقيقة، كان ينظر بنور قلبه ويبصر ببصيرته.
كان يحب الصالحين ويواصل العلاقة الوطيدة مع الصالحين والسادات والعلماء، كان مولعا بحب السادات من قبيلة الشهاب خاصة في فانكاد، ومن الشهادة الكبرى الدالة على محبتهم وعلاقتهم أن الكتب المخزونة في مكتبة البيت للسيد محمد علي شهاب قد نقلت كلها بعد وفاته إلى مكتبة كلية سبيل الهداية الإسلامية، وكان آخر البرامج الذي شارك فيه السيد محمد علي شهاب تدشين الكتاب الصادر عن لجنة الطلاب لكلية سبيل الهداية عن ماء زمزم وفضيلته، كان ذلك في ردهة الكدفنكل صباح يوم الجمعة بتاريخ 31 يوليو في سنة 2009 قبل يوم لوفاته، وهذه كلها تدل على العلاقة الودية والتواصل الروحية بينهم.
كان قلبه مشغوفا بمحبة سيد المرسلين وأتباعه الصحابيين وعترته الصالحين، من السادات البدريين وخلفائه الراشدين، أبدى محبته لهم بقراءة مناقبهم نظما ونثرا وإهداء الطعام وإيصال الثواب إليهم كل شهر، كان يواظب على قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه البدريين ومناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله والشيخ أحمد الكبير الرفاعي رحمه الله في اليوم الحادي عشر من الشهر الهجري، ويدعو إلى ذلك بعض العلماء والعوام ويطعمهم ويكرمهم، كان زاهدا ورعا تقيا سيمته الصمت وشيمته الفكر لا يعترض في أمر يكفي شأنه، لم يكن مائلا إلى زخارف الدنيا بل كان قلبه خاليا من المال وجيبه مليء به.
وعن جابر رضي الله عنه مرفوعا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجلسوا عند كل عالم إلا إلى عالم يدعوكم من خمس إلى خمس، من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الرغبة إلى الزهد،ومن الكبر إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة، فهنيئا لمن كان محبا ومصاحبا لهذا العالم التقي الورع.
كلية سبيل الهداية الإسلامية
وفي أول الأمر قد بنى مدرسة ثانوية في تذكار والده كنجين مسليار، وبعد سنوات ارتقت إلى كلية إسلامية تابعة للمنهج الدراسي لجامعة دار الهدى الإسلامية وهو في سنة 1997، وهذه الكلية كلية سبيل الهداية الإسلامية بذر الشيخ بذورها في أرض طيبة وبللها بماء التقوى وسمدها بسماد الإخلاص فأنبتها الله نباتا حسنا، ونمت شجرة رست أصلها تحت الثرى وسمت فرعها فوق الثُّرى وأتت أكلها كل حين بإذن ربها، تخرّج منها هدويون أكثر من مائتين ويتعلم الحين أكثر من ثلاثمائة وثلاثين طالب، خريجها الهدويون فيهم العباقرة من الدكاترة والباحثين والوعاظ والكتاب، تصدر عنها هذه المجلة النهضة في اللغة العربية في كل شهرين.
يقول الله تبارك وتعالى : «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد» وقد نزلت هذه الآية في صهيب الرومي الصحابي الجليل، إنه رومي الأصل، قد أقام في مكة واتجر وارتبح، ولكن لما هاجر إلى المدينة تبعه المشركون ليمنعوه فأدركوه، فوقف واستخرج نباله من الكنانة، وقال لهم: «يا معشر قريش تعلمون أني من أرماكم، والله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي بيدي منه شيء» فقالوا:»أتيتنا صعلوكا فكثر مالك عندنا، ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك؟» فقال: «أرأيتم إن تركت مالي لكم هل تخلون سبيلي؟» قالوا نعم، فدلهم على الموضع الذي خبأ فيه ماله بمكة، فلما لحق بالمدينة قال له صلى الله عليه وسلم:»ربح البيع أبا يحيى» وتلا قول الله المذكور من قبل، نعم، كان الأستاذ بافوتي مسليار ممن اشترى الآخرة بماله، قد أنفق جميع كسبه في مجال الدين خاصة في نشر العلوم الإسلامية.
نقرأ في سطرات التاريخ قصة عبد الله بن المبارك رحمه الله، إنه كان يخصص مائة ألف درهم في كل سنة ينفقها كلها في أهل العبادة والزهد والعلم، وهذا كل ما يربحه من تجارته، بل كان كثيرا ما ينفق من رأس ماله أيضا، بل لقد كانت غايته من التجارة والكسب أن ينفق على الفقراء والعلماء والزهاد والعباد، ولأجل هذا كان يعمل ويسافر ويتاجر، وقد قال يوما للفضيل بن عياض: «لولا أنت وأصحابك ما اتجرت’» وفي الحقيقة كانت كلية سبيل الهداية والطالبون فيها أولاد الأستاذ المرحوم، لم يأل جهدا في تربيتهم وإتاحة التسهيلات لهم، قد بذل جل ماله بل كله في حوائجهم، نِعم ما قال الله عزوجل في القرآن «إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور» (الفاطر 29-30)
وقد ورد في الحديث «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عزوجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا». إذا لاحظنا حياة الشيخ بافوتي مسليار نعثر على حقيقة عارية أنها كانت حياته تمضي بهذه الأعمال الصالحات، يدخل السرور في قلوب زائريه ويكشف الكرب عن المكروبين، ويقضي دين المستضعفين ويطرد الجوع ويشبع الجائعين، لم يمض يوم من حياته إلا على خوانه ومائدته الضيوف، كان خير مضيف يستضيف كل واحد كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم عالمهم ومتعلمهم، يبين للضيوف أصناف الطعام وألوانه ويفصل لهم منافعه ويحرضهم على الأكل.
وقد توفي رحمه الله صباح اليوم السابع من صفر بعد حياته النيرة الحافلة من الأعمال الصالحات والنشاطات الدينية، رحمه الله تعالى وتقبله بأعماله، وجزاه الله خير ما يجزي عباده المتقين، ودفن في رحاب الكلية عند قبر أمه الحنون، لا ندري كيف وارت تلك البقعة هذا التقي النقي الجواد الكريم في تلك اللحدة،
أيا قبر شيخ كيف واريت جوده
لقد كان منه البر والبحر مترعا