عباس الحسني، الباحث في جامعة الأزهر، القاهرة، مصر
تُعدّ الهجرة النبوية حدثًا فاصلًا في التاريخ الإسلامي، حيث هاجر النبي -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليمات- من مكة إلى يثرب التي أصبحت تُعرف منذ وصول المصطفى -عليه الصلاة والسلام- إليها باسم المدينة المنورة، لأنها أضاءت بقدوم النبي وأصحابه إليها،
وقد كانت هجرة النبي وأصحابه بسبب ما لاقوه من محن وأذى من كفار قريش، وبسبب الحصار الذي فرضوه على المسلمين ووقوفهم في وجه الدعوة الإسلامية، ومحاولة القضاء على أي شخص يعتنق الإسلام.
لم تكن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة حدثًا عابرًا، بل حدثًا تاريخيًا وعلامة فارقة في التاريخ الإسلامي، وهي التي تحمل في طياتها مِن الدّروس والعبَر والعظة ما لا يكاد يحصيه العد ولا يستوعِبه البيان،
لا تزال نسائم الهجرة النبوية وذكرياتها وعِبَرُها تتجدّد على الأمّة الإسلامية فى كل عام، ولم يزل الوُعاة المهديّون من الأمّة يرون أنفسهم فى هجرةٍ لا تتوقف، لأنّ مشقة الحياة وصعابها لا تنقضى، ولأنّ صراع الحق والباطل قائم قيامَ هذه الدنيا، وفى الهجرة من عظيم المعانى ما هو عُدّة لأبناء الإسلام فى ذلك الصراع المستمرّ،
ومن الدروس المستفادة التي سطرتها الهجرة، أن العقيدةَ أغلى من البقعة، وأن التوحيدَ أسمى من البلاد، وأن الإيمان أثمنُ من الأوطان، وأن الإسلامَ خير من القناطير المقنطَرة من الذّهب والفضّة
ويظهر هذا المعنَى جليا في خروجِ النبيّ الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- مع صاحبِه الصدّيق رضي الله عنه مهاجرَيْن من هذا الحِمى المبارَك الذي صوّر الحديثُ الذي أخرجَه أحمد في مسندِه والترمذيّ وابن ماجه في سننهما بإسناد صحيح عن عبدالله بن عديّ بن حمراء الزّهريّ أنّه قال: رأيتُ رسول الله واقفًا على الحَزْوَرَة قال: والله، إنك لخيرُ أرضِ الله وأحب أرضِ الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجت.
وأن من الضروري الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله ويتجلى ذلك من خلال استبقاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلي وأبي بكر معه؛ حيث لم يهاجرا إلى المدينة مع المسلمين، فعليّ رضي الله عنه بات في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه صحبه في الرحلة.
ويتجلى كذلك في استعانته بعبدالله بن أريقط الليثي وكان خبيراً ماهراً بالطريق وكتم أسرار مسيره إلا من لهم صلة وطيدة ، ومع ذلك فلم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم، ومع مباشرته بتلك الأسباب وغيرها لم يكن ملتفتاً إليها بل كان قلبه مطوياً على التوكل على الله عز وجل. “وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ”(الطلاق:٣)
وأنّ الهدف السامي لا بد أن يكون مقرونًا بالعزيمة ومتحليا بالتخطيط الصحيح كما نراه من فعل النبي -عليه السلام- الذي لم يهاجر بشكلٍ عشوائي لا يترقب العواقب، بل خطط أمره ودبر شأنه ورسم الطريق في لوحة قلبه وأشار على المسلمين الطريقة المثلى للهجرة عندما هاجروا على شكل دفعات وبشكلٍ سري حتى لا يعلم بذلك كفار قريش.
كما أنّ الهجرة لقنت المسلمين أسمى معاني التضحية وأرقى دروس الوفاء لدعوة الإسلام، وكيف أنّ الرسول -عليه السلام- ومن معه من المسلمين ضحوا بكل شيء وبذلوا النفس والنفيس مقابل أن ينجوا بدينهم وينصروا نبيهم، وتحدوا المخاطر في سبيل تحقيقه.
ومما نستفيد من هذه الحادثة التاريخية القيادة المحمدية الرشيدة التي تضم أعوانها وأصحابها في كنفها وتسعى جاهدة في سلامة أتباعها وتوفير الإمكانيات المادية لهم حتى لا يلحق بهم ضرر ولا يمسهم مكروه.
كذلك الهجرة تعزز معاني الإخاء والمحبة بين المسلمين، ويتجلى ذلك عندما آخى النبي -عليه الصلاة والسلام- بين المهاجرين والأنصار، كما أنها وحدت صفوفهم وتلاشت الطبقات الاجتماعية والاقتصادية واندرست العنصرية المقيته والقومية البغيضة بينهم ليعلم كل واحد منهم أن خير الناس عند الله أكثرهم تقوى وأثتهم إيماناً، كما أنّ الهجرة أظهرت ما عند المسلمين من قوة الإيمان، ومنحت انطلاقة كبيرة للرسول -عليه الصلاة والسلام- حتى يشرع في تأسيس دولة إسلامية قوية بعيدًا عن بطش كفار قريش وظلمهم. وهذا بحدّ ذاته بيّن حنكته -عليه السلام- في طريق نشر الدعوة إلى خارج الحجاز،
فلو بقي في مكة لظلّ الإسلام محاصرّا منغلقا ولما تمكّن من نشر الدعوة الإسلامية وإشاعتها،
وهذه من أهم الدروس والعبر التي جاءت بها الهجرة النبوية الشريفة. لم تكن أحداث رحلة الهجرة سهلة ميسورة أبدًا ولم تكن عادية، بل كانت محفوفة بالمخاطر ومرت بظروفٍ صعبة تحملها النبي -عليه الصلاة والسلام- بكلّ رباطة جأش وعزيمة قلب، والقريش لم تكن تريد لهذه الهجرة أن تتم، لهذا فإنّ تاريخ الهجرة سيظلّ شامخا مرفوع الرأس في التراث الإسلامي والذي يعد نقطة تحول للدولة الإسلامية، كما أنّ الحفاوة الكبيرة والاستضافة الحارة التي استقبل بها أهل المدينة المنورة من الأنصار الرسول -عليه السلام- وأصحابه تدلّ على كرمهم ونبل أخلاقهم ورحابة صدورهم.
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (الحشر:٥٩)
وهذا من التأثير البالغ الذي يتركه الإسلام في النفوس، والهجرة النبوية ما هي إلا درس عظيم سطّر فيه المسلمون بقيادة الرسول -عليه الصلاة والسلام- أعلى مراتب الإيمان والصدق مع الله والتضحية والوفاء، وسطّر فيه الأنصار أسمى معاني الإيثار والأخلاق الفاضلة والانتماء، وأنّ الإسلام يُوحّد الناس ولا يفرقهم، وأن الدين كله لله.
وزبدة القول أن مواقف النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الهجرة بجميع مراحلها تمثل الدرس العملى للقدوة من حيث التضحية والانتماء للوطن والولاء له والعزم والصبر والصداقة والشهامة والتخطيط وغيرها الكثير
“لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا”.(الأحزاب:٢١)