عماد حمدي الإبياري
الإصلاح أصل شرعي من أصول الإسلام التي دعا إليه القرآن الكريم والسنة المشرفة، والإصلاح هو عملية تجديد تتصل بالحياة، يهدف من وراءها حماية المجتمع من شيوع المفاسد والمنكرات والانحراف، حتى نصل إلى الغاية الكبرى، وهي تحقق الإصلاح البشر من جميع النواحي، فَبإصلاح البشر يصلح نظام العالم .
ويري العلامة طاهر ابن عاشور-رحمه الله- يعتبر الإصلاح هو الغرض الأسمى للإسلام؛ لأنه يقوم على إصلاح البشر من جميع نواحي حياتهم، وبإصلاح البشر يستقيم صلاح نظام
العالم ([1])’’
فالإصلاح أصل، ومنهج حياة لا يمكن يستغني عنه مجتمع يريد الاستمرار بحال من الأحوال ، فإذا اختفي الإصلاح من المجتمع صاروا لا يبالون بارتكاب الجرائم والانحرافات ، لهذا يصف الرسولr حال المجتمع بحال ركاب السفينة ، حيث يكون بعضهم في أعلاها، وبعضهم الأخر في أدناها ، فالذين في أدناها لا يأخذون حاجتهم من الماء إلا بالمرور من عند من كان في أعلاها ، ثم أرادوا أن يخرقوها حتى لا يمروا على من فوقهم ، فقد روى البخاري عن النعمان بن بشير- رضي الله عنهما -عن النبي eقال : ))مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا, فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا, وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)) أخرجه البخاري في صحيحة ، والترمذي في سننه واللفظ له، وأحمد في مسنده.
وبنظر في القرآن الكريم نجد أن المولى -سبحانه وتعالى – تحدث فيما يزيد عن مائة وثمانين آية عن الإصلاح ، وأذكر منها ما يلي :
- الإصلاح مهمة الرسل -علهم السلام -.
ومهمة الرسل -عليهم السلام – بحثهم على الطاعات واجتناب المحرمات ، وكانت دعوة العامة لجميع الرسل دون استثناء لذلك ، قال تعالى : ) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم ٌ( [سورة المؤمنون:51]
وهذا إعلام من الله -تبارك وتعالى – بأن كل رسول في زمانه أُمر بهذا المعني ، ووصي به ليعتقد السامع الكريم بأنه نودي له جميع الرسل- عليهم السلام – .
- الصالحون أولياء الله -سبحانه وتعالى -.
الصلاح صفه من صفات الإيمان ، فمتى نال الإنسان مرتبة الإيمان كان من عباد الله الصالحين ، فالله -سبحانه وتعالى- يدافع عن أوليائه الصالحين ، فقال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ))[سورة الحج – الآية 38].
وأعلم -أخي القارئ- أن الإصلاح على ضربين :
الضرب الأول : الإصلاح على مستوي الفرد ، وهو تصويب ما أعوج لدي الانسان في ممارسة أمور الدين والدنيا ، والعودة بها إلى الأصل الذي لم يلحقه زوائد ومحدثات .
وإصلاح الفرد يقوم على إصلاح عقله الذي هو الأساس لإصلاح جميع خصاله، وبعدها يأتي إصلاح أعماله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾[فصلت:30[، وعن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: (( قل آمنت بالله فاستقم))، وفي رواية للأمام أُحمد بن حنبل : (( ثم استقم )) أخرجة مسلم في صحيحة ، وأحمد في مسندة .
ويرى العلامة الطاهر ابن عاشور -رحمه الله- أن رسول الله r جمع في قوله ((آمنتُ بالله)) معاني صلاح الاعتقاد، وفي قوله (( استقم )) فهي تعني صلاح العمل، وبناء عليه فإن أصول إصلاح الأفراد عند ابن عاشور تقوم على إصلاحين، إصلاح الاعتقاد ، وإصلاح العمل([2]) .
والضرب الثاني : الإصلاح على مستوى المجتمع ، وهو أن يقوم بالإصلاح شؤون الحياة للإفراد والمجتمعات، بما يحقق لهم خير الدنيا والآخرة، فينعم الناس جميعاً بالأمن والأمان، في ظل تحقيق المسلمين لمقاصد الشريعة بإصلاح أحوالهم الدينية والدنيوية.
ويشمل الإصلاح الاجتماعي على مستوى المجتمع والإصلاح الاقتصادي والسلوكي وغيره ، وإصلاح المجتمع يكون بطاعة وعدم التنازع والتفرق، لأن ذلك يؤدي إلى الفشل الذريع، والضعف ، وذهاب ريح البأس ، الذي لا تقوم للأمة به قائمة، قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[الأنفال:46 [، وقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[آل عمران:103[.
وبعد أن عرضت لك لمحات حول الاصلاح عرض لك مدى تأثيره على المسلمين والمجتمع الإسلامي عامة ، وهو على النحو التالي :
أولاً : الإصلاح سبب لدرء البلاء والهلاك والضنك عن المجتمعات ، ويظهر هذا جلياً في أكثر من نص شرعي ، ومنها قوله تعالى:﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: 117].
ثانياً: إرادة الإصلاح سبب من الأسباب لعون الله تعالى للعبد ، فقال تعالى على لسان شعيب : ﴿وما أُريدُ أن أُخَالِفَكُم إلى ما أنهاكُم عنه إن أُريدُ إلا الإصلاحَ ما استطعتُ وما توفيقي إلا باللهِ﴾]هود:88 .[
ثالثاً: يعتبرالإصلاح سبب من الاسباب للحصول على الأجر العظيم والثواب الجزيل من الله تعالى ، فقد قال تعالى: ﴿ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾]النساء:114[ .
رابعاً : إصلاح الوحدة الإنسانية يأدي إلى المساواة بين أجناس البشر وشعوبهم وقبائلهم وشاهده ، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾]الحجرات:13[، وقد بلغ النبي r ذلك للأمة في حجة الوداع.
خامساً : الإصلاح سبب للمحافظة على تماسك الأسرة وترابطها ، ويظهر هذا في اتباع القواعد، والضوابط التي تسير عليها الأسرة في حال حدوث شقاق ونزاع ، فقال تعالي: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [سورة النساء : آية 128]
فإصلاح الأسرة يأدي إلي تقوية العلاقة بين الزوجين، وبين الأرحام في محضن الأسرة ؛ لأن الأسرة هي الركيزة الأساسية للمجتمع .
ولتحقيق ذلك الاصلاح قد أوصى الإسلام بالنساء خيراً وأمر باكرامهن والإحسان إليهن ، ومعاشرتهن بالمعروف ، ورتب للزوجين حقوقاً وواجبات على بعضهما البعض، وحقوق للأرحام بين أفراد الأسرة ، وجاءت النصوص الشرعية العديدة التي نصت على إصلاح أحوال الأسر، بدءاً من العلاقات الزوجية ، ومن هذا قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ ] النساء: 35[ ، فهذا نص يدل بمنطوقة الصريح على وجوب تدخل الأقارب للإصلاح ، وما روي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه – ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ ، قَالَ: هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ؛ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ)). أخرجه الترمذي في سننه.
سادساً: الإصلاح بين المتخاصمين من حقوق المسلمين على بعضهم البعض ، اجتناب كل ما يؤذيهم أو يغري بينهم العداوة والبغضاء، أو يمزق وحدتهم ويفرق جماعتهم ، وفي مثل هذا المعنى يقول الله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ]الأنفال:1[، وإصلاح ذات البين يكون بالتسامح والعفو وإزالة أسباب الخصام ، وزرع المودة والرحمة والتحابب والتآلف بين المسلمين يأدي الي وحدة صفوف الأمة الإسلامية.
سابعاً : ويري الشيخ / محمد عبده -رحمه الله- أن الإصلاح الاجتماعي يعالج الإنقسام الذي حدث في المجتمع بسبب وجود الطبقية بين الأغنياء والفقراء، ولهذا كان متعاطفاً مع الفقراء، ومعادياً لأسلوب حياة الأغنياء ولنظام الطبقات المتوارث، وكان يسعى لتجاوز هذا الواقع الاجتماعي([3]).
إذا فإننا بحاجة الى إصلاح أحوال المجتمع وبخاصة في مجال التفكك الأسري ، وكثرة الطلاق، والعزوف عن الزواج يحتاج إلى تكافل اجتماعي، وتقديم المساعدات من قبل القادرين على ذلك، وقيام المصلحين بواجبهم تجاه هذه الظواهر، وكذلك نشر الوعي الاجتماعي الذي يحد من الآثار السلبية لهذه الظواهر وحث الناس على عدم المغالاة في المهور وغير ذلك.
وعليه فإعلم -أخي القاري – إن الدعوة إلى الإصلاح لا تتحقق إلا بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وفى ذلك يقول رب العالمين : ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ ]النحل : 125[، وأعلم أيضاً أن إصلاح النفوس يكون بتزكيتها، وإصلاح نظام الحياة يكون بالتشريع الذي يأدي بدوره الى إصلاح العالم أجمع .
[1] أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ، طاهر بن عاشور ، ص169.
[2] ينظر: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ،طاهر بن عاشور ، ص79.
[3] ينظر: الأعمال الكاملة ، محمد عبده ، ص136-137.