أسلوبان في القرآن لتعبير وحدانية الرحمن

بقلم: أفلح الزمان

القرآن بحر خضم زاخر لا يُسبَر غوره، كلما تصطخب أمواجه ويعب عبابه إلى شواطئ قلوب الإنسان يحمل في جوفه الدرر والجواهر، تلوّن حياة الإنسان، وتُصبغ صبغة الله في كل جوانبه، وتنعش النفوس، وتحلّ عقد المغاليق، كما يبل المطر أرضا يابسة فتخضر به، وتسعى النفوس به إلى وصف الكمال والشمول، ويمنعها عن كل خلل وملل، وإذا حل عليها غيث الهداية فتتطهر به من دنس الذنوب والآثام، ويروى به كل عطشان، ويمير به كل جوعان، وتمتلئ به سرورا وطربا، وتتوصّل به إلى ساحة السلامة والكرامة.

 وهو تعبير يشمل كل خير وصلاح، وكل ما ينفع ويسعد، ويدفع أسباب التعاسة والشقاوة، وإذا حاول أحد أن يصف القرآن لا يعرفه هل يبلغ القلم مداه أم يكبو دون غايته؟ فالقرآن آياته ذو حلاوة وطلاوة، تنير المظلمات، تضيئ المطبات، وترخي سدول الحق بينهم وبين الشيطان، قد احتوت الآيات مع إعجازها على المعاني التي يطلبها الإنسان للعاجل والآجل، والفوائد التي يفتقر إليها للمعاش والمعاد.

وتوسعت دائرة أوجه الإعجاز للقرآن الكريم حتى لم يدركها من تبحر في العلوم المختلفة، ولم يمكن حصولها لمن بنى القصور المرموقة بالمعارف، فتكون كامنة في مكمنها، وإنها لا تغيب عن أنظار الناس على الدوام بل تبرز واحدة تلو أخرى عندما يحتاج إليها الزمان والمكان، ويجتذب إليها قارئها ويعتبر منها وينتفع بها، ,ويلمّع عقله ويستنير ذهنه، فتوجد في القرآن غزارة الأسرار وفوّارة الحكم لا يحصيها أحد، والقرآن الكريم يعرض عليه عوالم جديدة، ويفتح له أبواب الآفاق العلمية، ويدخله مدخل مكارم الأخلاق. ويزيل الجمود عن خاطره ويطفح فيه النور ليهتدي به إلى الله.

أعجب به المشركون الذين ساروا على ذروة الأدب من اللغة العربية وصاحبوا بفصاحتها مثل وليد بن مغيرة وغيره. بل أعجزهم وأبهرهم كلام الله عز وجل، قد توارى كثير من الإعجاز اللغوي في باطنه عن أفكار الناس، لا يحيط فهمهم صور إعجازه ولا تصل مدراكهم إلى عمقه.

استخدم الله أسلوبين لتعبير وحدانيته في القرآن الكريم وترسيخ توحيده في قلوب الإنسان عبر قراءته، فالأول عن طريق “لا النافية للجنس”، والثاني ما نسبت إليه “ما النافية بالالتحاق بـــ”من الاستغراقية”، يحمل كلاهما على معنى واحد . قال الله تعالى ﴿وَإِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ا⁠حِد ࣱۖلَّاۤإِلَـٰهَ إلَّاهُوَٱلرَّحۡمَـٰنُ ٱلرَّحِیمُ﴾{البقرة:١٦٣}وقال أيضا:﴿لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـٰثَةࣲۘ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّاۤ إِلَـٰهࣱ وَ حِدࣱۚوَإِن لمۡ یَنتَهُوا۟ عَمَّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ﴾{المائدة ٧٣ا}والأمثلة على ذلك تطول، فيفيد كلاهما النفي للجنس، وقد قال فخر الدين الرازي في “مفاتيح الغيب” إذا أضيف حرف الاستثناء “إلا” وغيره بـــ”لا النافية للجنس تقتضي النفي التام الشامل[1]. وكذلك، يرصد ابن عاشور في تفسيره إذا دخلت “من الاستغراقية الزائدة” بعد حرف النفي فتنصص على قصد نفي الجنس”[2]. فهنا، يطرح سؤال مهم وهذا: “لماذا عمد الله تعالى التعبيرين ليوضح أنه إله واحد لا شريك له ولا مثيل له؟” فهذه الدراسة تعتني بالبحث عن الفرق بين هذين الأسلوبين استخدمهما الله في القرآن الكريم لبيان وحدانيته.

وقبل القول بالتفصيل عن الكلامين الذين أضاف إليهما لا النافية للجنس وما النافية بالالتحاق بـــ”من الاستغراقية”، يجب الانتباه إلى استخدامهما في اللغة العربية. فقد تحدث العالم اللغوي الحديث “فاضل السامرائي” عن الفرق بين لا النافية للجنس وما النافية بالالتحاق بــ”من الاسغراقية” أنه يقول: “إذا سألك سائل “هل رجلٌ في الدار”؟ فجوابه الصريح لا رجلٌ في الدار بل هنا يمكن إرادة وجود رجلين أو ثلاثة رجال فيه. وإذا كان سؤالك “هل من رجل في الدار” فجوابه السديد “لا رجلَ في الدار” لأن من يستجيب لصاحب هذا السؤال لا بد له من استعمال “لا النافية للجنس” من أجل إخباره بالعلم أو الخبر الذي لا يعرف صاحب السؤال وجود أحد من الإنسان في الدار. ولكن، إذا زعم زاعم أن في الدار رجل لا بد لمن يرد على هذا من استخدام ما النافية بالالتحاق بــ”من الاستغراقية” التي تسعمل للرد على من زعم”[3]

فيعكّس كلا الكلامين معنى واحدا. لكن، بالاعتماد على قول “فاضل السمرائي”، نفهم يهدف بهما هدفين مختلفين، فالكلام الذي استند إليه “لا النافية للجنس”  يفيد الإخبار، بل الكلام الذي انضم إليه ما النافية بالالتحاق بـــ”من الاستغراقية الزائدة” يراد بها الرد. وهذا هو الفرق الفاصل بين الكلامين المذكورين فيكون بيانهما مع الأمثلة كالتالي:

الأمثلة على الكلام الذي استند إليه “لا النافية للجنس”

المثال الأول، وقد قال صاحب التحرير والتنوير في تفسير آية  ﴿وَإِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ا⁠حِدࣱۖ لَّاۤإِلَـٰهَ إِلَّاهُوَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ ٱلرَّحِیمُ﴾{سورة البقرة: 163} “أن هذا الإخبار عن إلهكم بـ”إله” تكرير ليجري عليه الوصف بواحد”[4] وإذا فكرنا في هذا المجال الذي ذكره ابن عاشور نفهم استخدم الله في القرآن صيغة “لا إله إلا الله” في صورة الإخبار، وقال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم في تفصيل تلك الآية “يُخبرُ تَعَالَى عَنْ تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا عَديل لَهُ، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ”[5] أي أن الله قد أخبر الناس أنه لا إله غيره.

 والمثال الثاني،  قال الله تعالى ﴿هُوَ ٱلَّذِیی يصَوِّرُكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡحَامِ كَیۡفَ یَشَاۤءُۚ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾}سورة آل عمران : 6{فهنا أيضا أن الله تعالى أخبر بأن الذي خلقكم وأتم تصويركم في بطن الأم. فإنما هو يستحق للألوهية.

والمثال الثالث،﴿ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَیَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَا رَیۡبَ فِی هِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِیثا﴾{سورةالنساء:٨٧} وقد قال القرطبي أن الآية نزلت على الذين شكوا البعث[6] ويصحح الله موقفهم عنه بإخبارهم أن لا معبود لهم إلا هو، والبعث حدث من الحوادث التي قدر الله وقوعه ولا مفرّ منه.

الأمثلة على الكلام الذي أضاف إليه “ما النافية بالالتحاق بــ”من الاسغراقية الزائدة

قد استخدم الله الكلام الذي أضاف إليه “ما النافية بالالتحاق بــ”من الاسغراقية الزائدة” في القرآن الكريم ردا على قول الكافرين والنصارى وزعمهم. يتضح ذلك بالأمثلة الآتية :

المثال الأول،  قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡقَصَصُ ٱلۡحَقُّۚ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾{سورة آل عمران:62} قد أشار صاحب الكشاف بقوله: “و«من» في قوله وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ بمنزلة البناء على الفتح في: (إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) في إفادة معنى الاستغراق، والمراد والردّ على النصارى في تثليثهم”[7] فهنا استعمل الله هذه الصيغة ليرد عليهم

المثال الثاني، قد ادعى النصارى على الله أنه “ثالث ثلاثة” وافترى على الله ما لا يعلمون. فأبطل الله أقاويلهم بقول الله تعالى ﴿قَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـٰثَةࣲۘ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّاۤ إِلَـٰهࣱ وَ ا⁠حِد ࣱۚوَإِنْ لمۡ یَنتَهُوا۟ عَمَّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِیم﴾{سورة المائدة:73} قال الزمخشري في تفسير تلك الآية “وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ للاستغراق وهي القدرة مع «لا» التي لنفى الجنس في قولك (لا إله إلا الله) والمعنى:  وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثانى له، وهو اللَّه وحده لا شريك له”[8] و إذا نقبنا في هذه الآية نعرف منها أن الله عز وجل رد على من زعم التثليث محققا صفته الوحدانية جلية.

والمثال الثالث،  قال الله تعالى :﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۤ إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمٍ عَظِیمࣲ﴾{سورة الأعراف:59} فهنا يوضح الله حال قوم نوح عليه السلام، أنهم كانوا مشركين قد ذكر الله في القرآن أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها ولا ينتفعون بها بقول الله تعالى: ﴿وَقَالُوا۟ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدࣰّا وَلَا سُوَاعࣰا وَلَا یَغُوثَ وَیَعُوقَ وَنَسۡرࣰا﴾{سورة نوح:71} الود والسواع واليغوث واليعوق والنسر فهذه كلها آلهة مزعومة  لقوم نوح ، فرد الله على اتخاذهم لهذه الأصنام آلهة لهم وثبت وحدانيته في الآية المذكورة.

فهنا، يمكن توضيح ذلك على وجهه الصحيح بموقفي فرعون : ﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ یَـٰۤأَیُّهَاٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرِی﴾ فهناك، أنكر فرعون ألوهية غيره ورسخها لنفسه ورد على موسى عليه السلام أمام الملأ في غيابه. لذلك استعمل الله هناك حكاية عنه “ما النافية بالالتحاق بــ”من الاستغراقية”. ولكن، عند إدراك فرعون الموت، يقول الله : ﴿حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِیۤ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوۤا۟ إِسۡرَ ءِیلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ﴾{سورة القصص:27} هنا، أنه تقرر بألوهية الله تعالى وأخبر بذلك فاستعمل القرآن الكلام الذي انضم إليه “لا النافية للجنس”

فهكذا، أن القرآن طوى بداخله شذرات قيمة تحيط بلغته وعلمه، وتشريعه وكل نوع من أنواع إعجازه وإذا ألقينا النظر إليها نحصل على الثروة من المعاني من مختلف أنواعه. والله أعلم وهو الموفق.


1 . الإمام فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، المجلد الثاني دار إحياء الثلاث العربيروت لبنان، ص: 149

[2] . محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير الحرير والتنوير، الجزء الثاني، مؤسسة التاريخ بيروت لبنان، ص: 73

[3] . < https://youtu.be/BNP9Gu_c1O  >

[4] . المرجع السابق

[5] . الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، المجلد الأول وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية دولة قطر ص:233

[6] . أبو  عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، المجلد الثالث، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، ص: 205

[7]. الإمام أبو القاسم جار الله محمود بن عمر بن محمد الزمخسري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الجزء الأول، دار الكتب العلمية، بيروت لبنلن،  ص: 363

[8] . المرجع السابق، ص: 650