إن ربي لطيف لما يشاء

بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الذي شدّد قلوب الأنبياء من قبس اللطف والمحبة والصلاة والسلام على رسول علّمنا بذاته دروس الرفق والمودة، وعلى آله وأصحابه المتدرّعين بأسوة مبجّلة مكرمة، أما بعد.

     كنت أبحث عن نصيحة  نبوية تؤزر الصدور وتسخر الشعور حين يستشيط الخلق فيه غضبا. وعن وسيلة تسهّل الطريق المحفوف بالفتن وتحوّله أمنا وغلبا. وعن كلمة تثبّت الفؤاد على مقرّه ومداره، وعن ضوء يسلط قلبي وخاطري… ويقلب داخلي وخواطري. إذن عثرت على السطور العبقة من الأحاديث النبوية، نصيحة وقعت عليها عيناي تزامنا…قوله (ص) لزوجته الحنون عائشة رضي الله عنها عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.

     “الرفق” ليس كلمة مجردة ذات ثلاثة حروف، بل هو أصل لكل فروع الخير، تتشعّب من الرفق دوحات الأمل والإحسان، ويتخضّب به كل قلب خدّره جدب الذنوب والعيوب، إذا عشش الرفق في ذاكرة رجل تراه من كل عيب سالما وفي كل يأس وبؤس حالما وصبورا، فإن من زيّن فؤاده من زبنة الرفق والصبر ولا يضنيه سهم البليات إذا صاله وخرقه، ومن هجره واتخذ قلبه وعاء للعنف والكراهية، تراه متشتتا قوته ومتفرقة عزيمته إذا نابه مكروه وخنقه، وإن كانت الخيرات التي أنعمها الله علينا دوما بمنزلة الغيث فالرفق وفروعه تتمثل سحاب الخير والإيثار. ولذا علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم “من يحرم الرفق يحرم الخير”.

     فإن بحثنا سير الأنبياء والعلماء، سير حافلة بالفضائل والعبر، سير الذين استرخصوا أرواحهم وأرهقوا نفوسهم في سبيل الدعوة الإسلامية… ترى تلويحات معينة توقف العيون مركزة على نقطة واحدة… هي “الرفق” قد نفخ الله روح الحماسة والثبات في عروق الأنبياء ليرسّخوا على طريقهم بتليغ دعوتهم وتطبيع بصمتهم… ولذا أخبر الله سبحانه وتعلى نبيّه موسى عليه السلام قبل إرساله إلى فرعون… إشارة إلى اعتصام بحبل اللطف والدعوة {إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} وإن تأوّلنا الآية السابقة في منتهى التأويل نفهم أن الله جل جلاله متأكّد على أن هذه الدعوة الوحدانية التي أرسل موسى عليه السلام لنشرها وترويجها في مصر ستنتهى أمورها بدون جدوى وبدون عدوى التأثر والتدبر في ملامح فرعون، بل أمره بأن يكون ليّنا في مخاطبته مع فرعون لعله يتذكر أو يخشى ولعله يفيق من نشوة همجيته وجهالته أو يعيد عقله إلى محله فيعلم حينئذ ما أخفى وانتأى عنه. ولكن كل ما قال موسى عليه السلام لفرعون ذهب أدراج الرياح وما سمع دعوته واستسلم لربه بل خاض لتموّجات نفسه وغاض إلى  أقصى لجة سفاهته. فكانت عاقبته آيات وعبرا ما غيرتها يد التبديل.

إن هذه الكلمة “الرفق” هي كلمة ضخمة شقت قلوب الكافرين كما يشق شعاع الشمس رداء الظلام، وخصلة لولاها لترى محيا الأنبياء تقذف الشرر والغضب بما تضافروا من جهود إنتهت بغير فائدة محصودة، فثبت الله أفئدة الرسل كما ثبت الله فؤاد نبيه بقول{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ  وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} حتى تقدم إلى دين العدالة فوج تلو الفوج والإنتصار يسير تحت لواء أبطاله كلما ساروا وغاروا في ميدان الحرب وكلهم أسّسوا قلوبهم بالرفق والمحبة قبل تأسيس الدول البادخة، وكلهم فتحوا صدور أعدائهم بمفتاح اللطف قبل فتوحات البلدان والقبائل الشامخة وتعاملوا أهل البلاد الغريبة بقلب الطفل الصغير، بقلب لا تعكر صفوته خمرة الحسد والغيظ، وهذا من الأسباب الرئيسة التي حرضت على اعتناق غير المسلمين بالإسلام، حتى اصطفوا تحت سماء دين الله دين التسامح واللطف.

     تكفيني هذه الكلمة قوة ونفحة إيمانية تكفيني ما صبت على قلبي المكسور من نصر وانشراح، تكفيني بأنها خصلة حسنة علمتني حياتي وعلاوة على ذلك وهو من صفات رب العليم(إن ربي لطيف لما يشاء).