بقلم محمد مشرف
لم يسلم زمن من النزاعات الأخلاقية ومن التوترات الفكرية ذات تجاذبات مختلفة، فربما تسلك ثلة من الناس طريقة والبعض الآخر يسلك طريقا آخر فيتجهون في معتقداتهم وتفكيراتهم وشعورياتهم طرائق قددا، ولكن هناك بضع متجهات جهنمية سيطرت على أذهان المجتمعات منذ القدم ثم تمادت في طغيانها وتجبرت على شاعرهم وتزداد الأيام سرعة في بسطتها ونفوذها، فإن الإلحاد أو الزندقة كان من خلال هذه الاتجاهات منعطفا فارقا أدى إلى تيارات جارفة ونجم عن تداعيات تستفحل وطأته يوما بعد يوم وتستحوذ قبضته على معظم الدوائر الاجتماعية، حتى أصبحت أيديولوجياته بنفسها دينا يحمل بين طواياه رسالة متصادمة تحت عناون مزركشة ودفة مبرقشة وزاهية، تجمع تحت ظلها كل لسن وأمة، وتخيمت تحت دفأتها المزيفة جميع المبادئ والقيم التي كانت في عهد ما أصول الأصالة التي سادت العالم.
ولكن الإسلام شكل أمامها عائقا أساسيا، وشردها في معمعان التيه، وبعثر قوتها وشل فاعليتها ليكبح جماحها ويطأ على رغوتها ويدفنها تحت الركام كما هي عادته ضد كل قبيح مستبشع يتربص من الأمة، ويركب إلى نزعاتها ونزواتها حتى تنضمّ تلك الأباطيل والأراجيف تحت لوائه وتتقيأ من دمها نفاثة الإفك والمفتريات، أو تطحن تحت بسطاره وتنخلع عن تصوراتها التعسفية المسيّجة في أحابيل الشك والشبهات، ولكن في ظل الزعزعة المستمرة التي تتشابك الإسلام وفي ظل الضعف والسخافة اللذين حلا بأمته قد زجه إلى حضيض التردي والتدلي، وطوّحا بتعاليمه المسايرة مع الزمن إلى جحيم الانحطاط والإسفاف والخمول، ولم تزل انعكاسات هذه الظاهرة المستجدة تتغلغل في كل عقل ولم يزل عفنها النتن يأخذ بتلابيب فكريات فجّة، وتقيم الدنيا وتقعدها لهواها ومشتهاها، فهناك أسباب وعوامل تفاعلت بحضور كاسح في مختلف المساحات لهذه المحاولات الطويلة الذيل.
جذور عريقة وأبعاد متشعبة
إن إنكار وجود الله كان قد نشأ بين رجال الفكر منذ عهد بعيد بوجه أو بآخر، حتى في زمن رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل قد رفع عمامته هذه الأيام وانتفض غبار الرقاد عن عينيه، يحمل بين كوامنه تاريخا عميقا من أصحاب أسطوريين قد استرمزوا في وجاهته وتطاولوا في طليعته، فإن أوربا كانت ذات باع وذراع في ترسيخ مسالك الإلحاد وحمله على كتفيها في المعمورة جمعاء، والقرون ما بين الخامس عشر والثاني عشر قد أمضت خطوة بنّاءة في تجديد خباياه، والظلم والعشوائية اللذان سادا أوربا في تلك الأزمنة بقيا محركين أساسيين في هذه النشأة اللعينة، والذي أسهم فيه جو التناحر بين الكاثولكيين والأناس العامة من مشاكل طارئة آنذاك إسهامات سخية، وفي هذا الإطار المتصادم والمتناحر تنامت عقلانيات رجال الفكر إلى أربعة أصول اجتاحت جميع مظاهر الاستبداد والديكتاتورية.
1) الثورة الفرنسية (French Revolution)
2) الإصلاح الديني (Reformation)
3) النهضة الأوربية (Renaissance)
4) حركة التنوير (Enlightenment)
أسفرت هذه الأصول الأربعة عن نظام مستجد عم جميع المناحي وقضى على الفوضى والخراب، وأخذت الدوائر العلمية والأدبية والثقافية تتسرب إلى صدور الأوربيين حتى تطرقت هذه النفسية إلى ميلاد تصور جديد باسمه ’الإلحاد’… وبعد أن قامت القيم الأخلاقية والدينية تحتل المكانة المرموقة عند أفكار المجتمع، أصبحت الفكرية الإنسانية البحتة تدبّ إلى بواطنهم تدريجيا وتشق جميع الأغلال التي حاصرت طريقها، وكان المفكر الألماني ماتياس نتسن (Mattias Knutson) أول ملحد خرج على ظهر الأرض، فعلى وجه التحديد، أصبحت أوربا بؤرة تمحورت في رحابها جميع النواميس التي تنم عن حقيقة هذه الخطورة الفادحة، فإن نظريات المفكرين المتجددين والذين وقفوا على مفاهيم مختلفة عما قبلها قد استقطبت العوام وطمست من قلوبهم غيرتهم الدينية وشعورهم بالخالق، فعندما هبت “نظرية النشوء” (Theory of Evolution) بين العوام تلاشى اليقين حول نفخة الروح إلى العدم، وعندما تكونت الماركسية باقتصاديتها ورأسماليتها، ارتد النظام الديني الاقتصادي وجميع المفاهيم حوله إلى الوراء، مغرمين من “مذهب المنفعة” (Utilitarianism) الذي أنشأه جرامي بندم، “والتجريبية” (Empiricism) الذي أنشأه داود هيوم، و”المذهب العقلي أو العقلانية” (Rationalism) الذي أنشأه إيمانويل كاند، والليبرالية التي أنشأها جون لوك تشتت الناس من عواطف التدين وادّعوا لأنفسهم التخلي عن جميع النزعات الدينية، فأعلنوا التخلي ظاهرا كما وقر في نفوسهم هذا الأمر باطنا.
معتقدات جسّدت انعطافات فارقة
عندما بقيت المجتمعات عارية عن لبوسها مجتثة عن أصولها وقحلت جميع جوانب التدين المترامية الأطراف، وفي ظل التقنيات الحديثة التي تولدت ليلَ نهارَ في هذا القرن تعاكس ظل الإلحاد بشاكلة جديدة وحلة قشيبة، فأتت بمعتقدات متفاقمة والتي غيرت مجاري حياة المجتمعات المختلفة وفي أوربا على وجه التحديد، فهناك خرافات مختصة تصرخ عما في مغزاها من ترّهات وخزعبلات سعت إلى تخريق الأجيال القادمة.
- ربما تكون الحيوانات التي تحيى في الكواكب الأخرى تمسك بزمام هذ العالم وتدبره وتديره، وهذا خرافة خالصة بلا أي اعتضاد علمي.
- نظرية تعددية الأكوان هي عبارة عن مجموعة افتراضية متكونة من عدة أكوان بما فيها الكون الخاص بنا وتشكل معا الوجود بأكمله، وهذه الدعوة أيضا تبعد عن دلائل علمية ولا ترتهن عليها.
- الكون يحمل قوة تفكيرية، فهو يعلم كيف يحيي نفسه ويمتلك نواصيه.
ثم كما نوهنا آنفا هناك عقائد و مفاهيم إلحادية تتضمن في فحواها الاستكراه الكامل للأديان والنزوع عن سائر أثوابه ومعانيه التي تسبب إلى اختلال الموازين وانتكاس المفاهيم.
- مناهضة الألوهية (Antetheism)، إن الإيمان بالله والتشبث برباطات الدين كان تحديا ماحقا أو هجوما هادرا ضد الإلحادية، فاجتهدوا بقضهم وقضيضهم لقذف جميع ما احتوت عليه الأديان من رسائل تمثل النماء والصلاح، فقدموا سببين فاعلين لهذا الأمر، أحدهما: العقائد لا تليق بالعقلانية، وثانيهما: إن الشرعة الدينية خطورة فادحة على الإنسانية جمعاء، وهذا نثارة بعض بقايا العقيدة الإغريقية في القرن الخامس والخمسين قبل ميلاد المسيح.
- الإثباتية أو البرهانية (Evidentialism)، هذا يفيد أن كل قضية أو دعوى تقبل عندما يساق تجاهها دليل يؤيدها، يعني إن الإيمان لا يكتمل ولا يتحصن إلا إذا أيد ببراهين تثبته، فوضعوا من خلال هذا السم الزعاف المؤمنين بالله تحت الخط الأحمر، وبحثوا من وراء كل أمر معنوي، إلى دليل مادي بلا مسكة من العقل، ولكن لا يدركون بأنهم لم يجدوا دلائل تعضد معتقداتهم حتى، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا، فبالإجمال كانت هذه الدعوى تحتبك بالمؤمنين المستضعفين في ربقة معقدة.
- العلمية (Scientism)، يقول العلميون بأن طرائق العلوم الطبيعية يجب أن تصطنع في مختلف فروع المعرفة، أو على الوجه الآخر إن العلم أصل كل قديم وجديد وإن جذره يتداخل في كل دائرة حتى في الدائرة الأخلاقية، وهذا بلادة متثاقلة كما نتمكن من معرفتها من خلال حياتنا اليومية، وكذا ربطوا البرهانية التي أسلفنا بيانها بهذه الدعوى، واقتضوا في كل مشكلة إلى برهان علمي، وهذا هشاشة تهرأت رميمها وستتهرّأ كل يوم.
- الإنسانية (Humanism)، فلسفة تؤكد على قيمة الإنسان وقدرته على تحقيق الذات من طريق العقل، وهذه القدرة تتكون من خلال استثمار التجارب التي تعوّد عليها الإنسان منذ ولادته وإبداع الخبرة التي تكمن تحت ذاته، وهذا يتناقض مع الألوهية (Divinity)، فالحكمة في الإنسان أن يتوازى مع إنسانيته التي لا تتكامل إلا مع الألوهية التي تسد ثلم حياته الجوفاء.
- التقدمية (Progressivism)، إن الإنسان لا يتقدم إلا من خلال تطوير تسهيلات حياته ومناحي استعاب عقله على مضامين مختلفة وإنها في مسارات التقدمية لا تحيد عنها ولا تنحرف عن سككها، وهذا ضد الرجعية أو التخلفية التي لا يساندها أي دين في أي زمن، وهذا لا يعني إن الإسلام لا يحرض على التقدمية، بل إنه لا يحرض على التقدمية التي تستدعي إلى التطبيع والحرية الكاملة عن جميع سلاسل الدين.
وهذه بضع عقائد تبنت فوق خيوطها نُسج الإلحادية إلا أنها تحمل بين كواهلها معاني أكثر خطورة من هذه من خلال الأسفار الأربعة المقدسة التي يعدها الملحدون أحجار زاوية دينهم وهن:
- Breaking the Spell
- 2) The End of Faith
- 3) God Is Not Great
- 4) The god’s delusion (وهذا كتاب ممنوع في جميع الدول العربية)
في إسار هذه الأسفار الأربعة تتراقص أشباح الإلحاد في كل فج عميق وتنبلج خفاياه من تحت كل صخرة صلدة.
أشعة سامة تتطاير في رحاب الإسلام
إن فقاقيع الإلحاد قد خرجت وطفت من داخل الإسلام أيضا حتى اتجه بعض المسلمين نتيجة لاعوجاج عقولهم إلى حضن الإلحاد ونثروا منه شعلا تشظت إلى سائر الأنحاء لتفخخ آراء الناس داخل مكايد ماكرة تحدق حولها العيون الشرسة والأعناق المشرئبة، مع أن التطبيع والليبرالية اللذين يسيران داخل أقنعة خفية تمر وشرذمة قليلون من يعرفها، فإن الإلحاد والليبرالية يتضافر بعضهما البعض، ليشكلا نظاما يحلمون به ويسهرون له في كل ليل معتم.
إن الدعاوي التي طنطنت حول الإسلام أمس أخذت تتسلل إلى جوهريته اليوم، وإن العيون التي كانت تستدق الطرف على كل ما فعله الإسلام من مكارم قد بدأت تحرك يديها وتشتت انتباه المسلمين، فإن الإلحاد أيضا أحد الأوهام التي أحاط بها الغزو الفكري أو الطغيان الحربي الخفي ذو رقعة متسعة وأفق رحيب، فقد أشار إليه سعيد رمضان البوطي في خطاباته فقال: “إن الحرب الفكرية إذا نجحت تضرب بجذورها في أعماق الكيان والمجتمع والفكر، وسبب ذلك الرعب في أفئدة من انتشار الإسلام في البلاد الغربية كانتشار النار في الهشيم”، ويقول في كتابه “كبرى اليقينيات الكونية”: “إنما تراه من حقائق الكون كلها إنما هو فيض عن حقيقة واحدة كبرى ألا وهي ذات الله عز وجل، ومن المحال أن تدرك ماهية الحقائق المتفرعة الصغرى قبل أن تدرك منبعها وأصلها الأول، فكان لا بد إذًا لكي تستطيع التعرف على الكون من أن تعرف خالقه أولا”، فإن من استكبر عقله على فطرة نفسه تراه يفهم كل دقيق من شؤون الحياة المختلفة، حتى إذا وضعته أمام أجلى حقيقة فيها -وهي وجود الله عز وجل- وجدته فيها كمجنون يتخبطه الشيطان من المس، إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدًا (سورة الكهف: 57)