إعداد: فادي محمد الدحدوح
خبير في البحث العلمي والدراسات
إن طبيعـة التحديات المعاصرة التي تعصف في المجتمعات كأمواج عاتية لا تكاد تتوقف، تجعل بل تتطلب نوعيات جديدة من القادة عالية الكفاءة ورفيعة المستوى الأكاديمي والمهني والثقافي والأخلاقي، نوعيات فعالة في عملية التغيير بمختلف أنماطه، وقادرة على تعلم مهارات التفكير الإبداعي ومهارات البحث والاستكشاف الذاتي، قيـادة لديها الفهم والوعي للطبيعة المتغيرة للمجتمع الأكبر الموجودة به المؤسسات، وهذا يتطلـب أن يكون القادة على وعي كاف وإدراك حقيقي لطبيعة مقدراتهـم القيادية ومعرفتهم بالإدارة، فكل قائد يحتاج إلى تقييم واقعي لمقدراته الحالية ليعمل على تطويرها سعيا لإيجاد مقدرات ومهارات تفي باحتياجات المستقبل، فالقائد العصري اليوم هو قائد القدوة.
وتشكل التربية في عالمنا المعاصر الإدارة الاجتماعية لرسم معالم التقدم في أي مجتمع، كما أنها تحدد مسيرة الإصلاح فيه، بل تعتبر في واقعنا المعاصر المتغير أبرز وسائل المجتمعات في بناء الأفراد والجماعات، فهذا التقدم المتعاظم والمتسارع الذي غيّر معالم الحياة في عصرنا الحاضر وراءه أنظمة تربوية تحكمها فلسفة هادفة وفكر علمي يرمى إلى بناء الأفراد على مستوى من التفكير الرائد وتكوين المجتمعات وتحقيق النهضة المجتمعية والعالمية مهما اختلفت وسائلها قوة وضعفا، فالتربية قديما مع أن متطلباتها كانت قليلة وحاجاتها محدودة إلا أنها صنعت الكثير في الأفراد والمجتمعات.
إن نجاح العمل التربوي يرتبط بوجود قيادة حكيمة رشيدة واعية ومدركة للمتغيرات المجتمعية والعالمية، تشرف على تخطيط العمل وتنسيق جهود الأفراد فيه، وتوجيهها نحو الأهداف المرسومة، وتتعاظم هذه المسئولية كلما كان الأفراد على قدر عال من الثقافة والمعرفة تتطلب أن يكون القائد في مستوى الدور الذي يقوم به، وأن يتصف بصفات شخصية مميزة، حتى يكتسب ثقتهم ويتمكن من التعامل الفاعل معهم، فالقيادة عملية يمكـن صناعتها كما يمكن إعادة اختراعها، والتفكير فيها، وتشكيلها بما يمكنها من إدارة مؤسسات المستقبل بكفاية وفاعلية، ومن أجل تطوير القيادة التربوية وتحديثها لإحداث نقلة نوعية ملموسة في أدائها ينبغي الحرص على تطويرها من خلال تنظيم منظومة برامج معمقة في المؤسسات انطلاقا من مبدئ تحقيق التنمية البشرية، وتمثل القيادة التربوية واحدة من هذه الظواهر التي تقوم بوظيفة مهمة رعاية التنمية البشرية، حيث إنها تدير العملية التربوية التي تهتم بأهم مؤشرات التنمية البشرية وهو مؤشر التعليم بطريقة مباشرة والمؤشرات الأخرى للتنمية مثل مؤشر الصحة ومؤشر الدخل القومي للفرد تعالجها الإدارة التربوية بطريقة غير مباشرة.
إن قيادة الإدارة التربوية هي التي تدير أمر التنمية البشرية وفق منهج القرآن الكريم والسنة المطهّرة، ولعل هذا المعنى الإداري الذي يشير إلى التحريك والتداول هو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)، ولعل هذه الإشارة القرآنية توضح أن مصطلح الإدارة معروف لدى المسلمين منذ القدم، فالقائد التربوي يحتل دورا رئيسيا من حيث مسؤوليته عن أداءات الآخرين العاملين معه، بالرغم مما قد يتعرض له في سبيل ذلك من ضغوطات من جهات شتى، فهناك طلب مستمر على تحقيق أداء يتسم بالكفاية والفاعلية، وتعظيـم دور الأفراد في العمليـة التربويـة، وتحقيق مخرجات بشرية قادرة على تحقيق إنجازات ونهضة مجتمعية واضحة المعالم ومواجهة كافة التحديات والأزمات بفاعلية.
ووفق ذلك وجبت على القيادة التربوية لا سيما في المؤسسات التربوية معرفة المناطق الإيجابية في الحياة وتشمل الرغبة في الإنجاز، وإرادة التعلم، وأخيراً العمل باجتهاد، وعلى عكس ذلك عليه معرفة المناطق السلبية في الحياة والتي تتمثل في التمني، وتضييع الوقت، ومن هذا المنطلق هناك العديد من الطرق التي تساعد القيادة التربوية على بناء البيئة الإيجابية لثقافة الإنجاز التربوي، وذلك بالمعرفة الكاملة للإنسان ومكوناته وكيفية التعامل معه، ومعرفة الحاجات الأساسية للإنسان والمجتمع، وكذلك الإلمام بالأعمال الإدارية وأنواعها، فالقيادة التربوية معنية بهذا الجانب أكثر من غيرها، فهي تشمل مجموعة من التفاعلات بين شخصية القائد والأفراد، حسب حاجاتهم واهتماماتهم ومشكلاتهم، وبناء العلاقات بين الأفراد، وكل ذلك في إطار من الإدراك المشترك بين القائد والجماعة والمواقف.
إن قيادة المؤسسات التربوية في المجتمع وبناء على آخر ما توصلت إليه العديد من الدراسات الميدانية ينبغي أن تنطلق في نظرتها للمؤسسة من المفهوم القيادي لإدارة شؤون تلك المؤسسات، لا أن تعكف على المفهوم الإداري فحسب والذي يركز بدوره على تسيير الأمور دون النظرة الكلية لنوعية وطبيعة عمل المؤسسات في المجتمع بمختلف مستوياتها، من أجل الوصول إلى تحقيق الأهداف العليا والاستراتيجية، فالقيادة التربوية وبحسب أبرز النظريات تتمثل في عدة عناصر أهمها: بناء الرؤية المستقبلية والتوجهات الاستراتيجية وبناء العلاقات الإنسانية والتأثير في الآخرين والتحفيز والتشجيع وتدريب الأفراد العاملين.
ويمكن القول ختاما بأن تقدم المجتمعات في المجالات العلمية والحضارية لابد أن يستند إلى أنظمة تربوية تحكمها فلسفة تربوية هادفة وفكر راق يهدف إلى بناء الشخصية على مستوى التفكير الرائد، وتكوين مجتمعات تنشد التقدم والارتقاء، وأدرك الجميع أن أي جهد يبذل في ميدان العمل يكون غير متكامل في أهدافه من دون إعداد العنصر البشري القادر على أحداث عملية التنمية ودفعها إلى الأمام بكفاءة وفعالية، وبذلك تبرز أهمية التربية ودورها في تطوير الشخصية والمساهمة في تقدم المجتمع وصولا لأسمى مراتب الريادة المجتمعية والحضارية.