ليلى الأطرش: نجمة لامعة في سماء العطاء الروائي والإعلامي

د.محمد منصور الهدوي – باحث وأكادمي من الهند

     فُجعت الساحة الثقافية في العالم العربي برحيل الأديبة والإعلامية ليلى الأطرش عن 73 عاما تاركة رصيدا من البرامج، والكتب، والجوائز، وذكرى طيبة في قلوب زملائها وجمهورها، وهي روائية فلسطينية أردنية ترجمت روايتها وقصصها القصيرة إلى عدة لغات من بينها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والكورية والألمانية والعبرية،  وتُدرّس بعضها في جامعات أردنية وعربية وفرنسية وأمريكية.

     كرست ليلى الأطرش كتاباتها للدفاع عن قضايا إنسانية واجتماعية، ورصدت معاناة المرأة العربية من خلال أعمالها الروائية التسعة والأدبية الأخرى، ومقالاتها، وتحقيقاتها الصحفية وبرامجها التلفزيونية، وأخيرا الكتابة للمسرح، دعت كمحررة للموقع الإلكتروني “حوار القلم” إلى نبذ التطرف والعنف الاجتماعي والفكري، ونشر قيم التسامح والتعايش وعدم التمييز الجنسي، ومن خلال موقعها كرئيسة لمركز “القلم الأردني”، المتفرع عن المنظمة العالمية المعروفة بهذا الاسم للدفاع عن حرية التعبير، عملت على تغيير الصورة النمطية عن العرب والمسلمين بين كتاب العالم للتقارب بين الثقافات، والتعريف بالكتاب والمفكرين والمترجمين العرب، مع التركيز على حرية الرأي والفكر، مع التصدي للتطاول على المسلمات الدينية.

     وسكنت قضية المرأة الفلسطينية وتحوّلاتها الاجتماعية والتاريخية والسياسية ورحلة الشتات في وجدان الأطرش، لتظهر في عدة أعمال كرواية “امرأة للفصول الخمسة”  2002، كما جسدت معانة تحرّر النساء الفكري كما في رواية “لا تشبه ذاتها” التي حصلت عنها على جائزة ” كتارا” للرواية العربية في 2019، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب في فلسطين 2017، وحصلت أيضًا على جائزة الدولة التقديرية للأدب في الأردن عام 2014، ووصلت روايتها “ترانيم الغواية” إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2016، وعملت بالتدريس في جامعات أردنية وعربية وفرنسية وأمريكية، كما تم تناول أعمالها الإبداعية المختلفة في عديد من الرسائل الجامعية.

     ولدت ليلى الأطرش عام 1948 في بيت ساحور بفلسطين، التحقت بالعمل في تلفزيون قطر في منتصف سبعينيات القرن الماضي برفقة زوجها الأديب والمترجم الراحل الدكتور فايز صياغ، وتحديدا في عام 1975، وساهمت مع زملائها في إثراء شاشة تلفزيون قطر بالعديد من البرامج الثقافية والحوارية، التي وجدت طريقها إلى الجمهور المحلي والعربي في تلك الفترة، حيث كانت الأطرش رائدة مسيرة الرعيل الأول في تلفزيون قطر تميزت كإعلامية وأديبة في كتاباتها، وتألقت أيما تألق في برنامجها الحواري “على ضفاف النيل” الذي استضافت فيه نخبة من الأدباء والشعراء والموسيقيين العرب نذكر من بينهم نجيب محفوظ، ومحمود درويش، ونزار قباني، وبليغ حمدي، وعبدالعزيز ناصر، وآخرون.

     وهي عضوة منتدى الفكر العربي ورابطة الكتاب الأردنيين وعضوة اتحاد الكتاب العرب، كما كانت عضوة اللجنة الوطنية العليا لمشروع “مكتبة الأسرة” التابع لوزارة الثقافة، ورئيسة اللجنة الإعلامية في عامي 2007 و2008.

     هي التي بدأت رحلة الكتابة منذ مطالع شبابها، فكانت حصيلة مواسم عطائها عدّة مجموعات قصصيّة، وأربع مسرحيّات وثماني روايات، هي: “وتشرق غرباً” (1988)، “امرأة للفصول الخمسة” (1990)، “ليلتان وظل امرأة” (1996)، “صهيل المسافات” (2000)، “مرافئ الوهم” (2005)، “رغبات ذلك الخريف” (2010)، “أبناء الريح” (2012)، و”ترانيم الغواية” (2015)، كما صدرت لها مذكرات شخصية بعنوان “نساء على المفارق” (2009).

شظايا حول روايتها “لا تشبه ذاتها”

     وروايتها  “لا تشبه ذاتها” هي محكيّاتها الصغرى والكبرى عن أفغانستان، سيّما أن الشخصية المركزية في النص امرأة أفغانية، هي التي تحكي وتروي، في غرفتها في مركز للعلاج من السرطان في عمّان التي وصلت إليها من لندن التي كانت قد هاجرت إليها من كابل مع أسرتها الثرية، هربا من الأوضاع التي استجدّت هناك.

     نجحت ليلى الأطرش، إلى حدّ كبير، في هذه الإزاحة التي أخذت إليها قارئها، بعد أن أجرت بحثا تاريخيا وسياسيا بشأن أفغانستان، البلد الذي يحضُر بعيني الراوية ومنظورها، وهي حبيبة ماء العينين أرسلان الغلزاني، الطبيبة في لندن، سليلة عائلة بشتونية مترفة، والدُها سفير سابق في عهد الملك، عائلة محبّة للفن والموسيقي وتعلّم اللغات الأجنبية، والبلد كان يتوفّر على ما ييسّر هذا، قبل أن يطرأ عليها كارهو الفن الذين يغلقون معهد الموسيقي في كابل، ويهدمون تماثيل بوذا،كبُرت حبيبة في لندن، ونضج وعيُها هناك، وتدافعت فيها الذكريات عن أفغانستان، وسمعت من أبويها عن أحوال كانت في البلد الذي صار كثير من شبابها يرتحلون إلى الجبال للقتال مع “طالبان”، الحركة التي تظهر قبيْل تدافع السرد في الرواية ومسارِه، وجريانه على لسان حبيبة، عن مرارات ومغامرات، عن أفراحٍ وأحزان، عن مرضٍ لئيم، عن طلاقها من الفلسطيني الذي أحبّته في لندن، وكان مخادعا ومقامرا، غير عابئ بقضية شعبه، عندما لا يمتنع عن الشراكة في مشاريع تجارية مع إسرائيليين.

     حضرت أفغانستان في “لا تشبه ذاتها” مشاهد من ماض يذهب إليه حنين مقيم في العائلة، سيما الأب الذي يأتي في سرد ابنته شخصا رائقا، وذوّاقا، وصاحب مزاج، مغرما بعمر الخيام، وساخطا من الذي يفعله النافذون في بلده، وحضرت أفغانستان، سيما كابل ومزار شريف، مجتمعا متديّنا، متسامحا، عطوفا، شغوفا بمولويات المتصوّفة، وإلى هذا، ثمّة يهود هذا البلد، فحاخام الكنيس في كابل يتحدّث عن أصلٍ عبرانيٍّ لبشتون الأفغان، وعزرا ابن سارة، صديقة أم حبيبة، يهاجر إلى فلسطين، أما أن جدّ الأب، بالغ الثراء، لم يتورّع عن تجريب مبيدات حشرات في فقراء لصالح شركة أجنبية مقابل المال، فثمة مرسلةٌ تُنبئ عن توازي الانتهازية في منبتٍ في العائلة مع الانتهازية البادية في الفلسطيني الذي تزوجته حبيبة عن رضى وإعجابٍ به، وأثمر الزواج عن ابنةٍ، نلقاها في الرواية تستمع إلى ما نقرأ، ما تحكيه والدتها لها ولنا.

     وأما مفهوم الرواية عندها عمل أدبي يتم من خلاله إعادة صياغة العلاقات بين عناصر هذا الواقع بما يتيح للكاتب التعبير عن رؤيته لواقعه، وفي تجسيدها لهذه الرؤيا تنوع استخدام الكاتبة للرواة، لتحدد وجهات النظر المختلفة بما يخدم موضوع الرواية ورؤيتها، التي تضافرت مع تصوير الكاتبة للأمكنة، وقد اعتادت ليلى الأطرش أن تذكر أسماء الأماكن التي تجري فيها الأحداث، تارة كما هي مثل القاهرة، القدس، عمان، وغيرها، وتارة أخرى تخترع أسماء لأماكن متخيلة مثل بيت جنان وبيت أمان، والمكان عموما هو المركز الأهم الذي تقف عليه روايات ليلى الأطرش، فالشخصيات اكتسبت قيمتها الدلالية من خلال تفاعلها مع المكان الذي تتحرك فيه، وقد عززت الكاتبة فكرة تفاعل الشخصيات مع الأمكنة، فبدت رواياتها وكأنها تدرس الطبائع الإنسانية وآثار ضغوط البيئة عليها، كذلك وظفت الكاتبة المكان بنوعيه المفتوح والمغلق بشكل ساعدها على التعبير عن رؤيتها في كل رواية، لذا اختلفت دلالات الأمكنة بين رواية وأخرى.

     الزمن بالنسبة للكاتبة ليلى الأطرش هو تراكم التجارب والخبرات والمعارف المكتسبة، ولم يرتهن بوح الرواة في الروايات الست التي يعالجها الكتاب، بلحظة الزمن الأساسي أو تفاعلات الحدث القائم، بل ينسل البوح بعيدا عن اللحظة الراهنة، ويستولد لنفسه زمنا خاصا ينتمي إلى الماضي البعيد نسبيا، ولكنه حاضر نفسيا، فالكاتبة حافظت على خصوصية اللغة الشعرية، واختارت عناوين رواياتها وأسماء شخصياتها بدقة بالغة، ولم تعد اللغة عندها ناقلة للمعنى بل أصبحت أداة للاحتمالات الخاصة فيما سكت عنه النص.