أهل النية ساروا وأهل المحبة طاروا

بقلم أنور ثابت الوافي

أيها الساعي الممدوح… طالما أتعبت نفسك في مطاف المثابرة….. أيها السالك المريد كلما سهرت لياليك المريحة استيفاء القصد لنيل المنى… سيقدر الله لك كل ذلك في السهولة…. سيحقق الله تبارك شأنه كل ما في بالك في يسر…. أيها العاشق السعيد، قم لتطوف وتلتزم وتقبل وتستلم… أيها العاشق الظمآن، قم فالكأس مترعة وخمرتك في الإنتظار…
والعشق يكون مرة مرضا قاطعا ويصير تارة سما ناقعا ولكن مريضه يرجو دائما أن يزداد سقمه وألمه إربا إربا…وأن راغبه ليبذلن كل ما يملكه لهذا السم القاتم ويضمحل بأثره كسفا كسفا….حيث تلاقى فيه السرور والجروح وامتزجت فيه المحنة والفرحة…
على الرغم من أن العديد من الأشخاص قد قدموا تعريفات مختلفة للحب الصافي في ضوء تجارب حياتهم وأفكارهم المختلفة ، إلا أن الصواب هو أن يكون منوط كلها غير موافق بالحقيقة حتى عند العلاقات البشرية التي ينحصر نطاقها في عالم مميت. وذاك غني عن البيان، كما أن الخلائق جميعها عاجزون بالتوضيح الدقيق لصفات الله وسماته، أنهم غير قادرين على فهم مصطلح محبة الله والتعبير عنها بشكل صحيح. وإنما نطبق في معرفة محبة الله وأوصافها المنوال الذي استعمله العلماء القدماء في تبيين صفات الله التي تضاهي أعمال البشر وظروفهم مثل قول الإمام الجليل مالك بن أنس رضي الله عنه حيث يفسر الآية ‹الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى›بقوله المشهور : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، فالواجب على أهل العلم والإيمان، وعلى جميع المسلمين أن يؤمنوا بأسماء الله وصفاته التي جاءت في القرآن العظيم أو السنة الصحيحة، وأن يمروها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
يوجد في القرآن ما يؤكد أن الله عز وجل قد أكرم جنسية الإنسان وأحبها بإخضاع المكونات الكونية لخدمة الإنسان وإنجاز مصالحه، ومن ذلك قوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (سورة الإسراء ٧٠). ومن ذلك أيضا قول الله جل شأنه خطابا للملائكة العظماء منوها بتقديس خلق الإنسان، فَإِذَا سَوَّيْتُهُۥ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَٰجِدِينَ (سورة الحجر ٢٩) لاحظوا قول الله تعالى عندما وصف القرآن مشهد إخراج آدم عليه السلام من الجنة لمخالفته أمره بإنذار أكل الثمرة المحرمة وإرسالها إلى الأرض، ‹قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. (سورة البقرة ٣٨,٣٩) . فملامح أسرار هذه الأية تشير إلى أن الهدف النهائي لإرسال البشرية إلى الأرض وخلافتها فيها هو اكتشاف محبة الرب التي انغمست في الكنه البشري أولا، والعمل الجاد لتحقيق هذا الحب مزيدا عبر عدة طرق مستطاعة.
رغم أن القرآن يتحدث كثيرا عن مكافأة الدارين للإنسان على الأعمال الصالحة، إلا أن محبة الله هي التي تقدم الكلمات الإلهية على أنها المكافأة النهائية. فقد نصر الله العباد بنفسه بإنزال ملايين الأنبياء وكتبه لتحقيق الهدف النهائي الأعظم الحب الإلهي إضافة إلى تكريمه بالوعي الأخلاقي والأفكار الطيبة الكامنة في كيانة روح الإنسان.
بناءً على هذا الرأي، يمكن تقسيم المساعي البشرية في هذا العالم إلى قسمين. طوبى لأصحاب الفرقة الأولى الذين أمضوا حياتهم محافظين على المكرمة الإلهية الأصلية برعاية الحدود الدينية وتربية النفوس الدنيئة. ويا شقاء لأصحاب الفرقة الثانية الذين أمضوا حياتهم معارضين عن العطاء الإلهي غير ملتفتين إلى قيمته وعظيم شأنه وتعقدوا ميولهم في أهوائهم الجامحة وشهواتهم الغريزية الجانحة.
وذكر الشيخ سعيد رمضان البوطي رضي الله عنه في كتابه الوجيز ‹الحب في القرآن› عن بعض طرق بلوغ المحبة الإلهية غير العبادات المعتادة. أولها أن يتذكر العبد كل نعمة وصلاح يقدمها الله تعالى له ويحاول أن يشكر لكل نعمه في كل الحركات والسكنات فيبدأ الروح أن يتذوق محبة الله العظمى وهو يؤدي المراقبة والمشاهدة بين يدي خالقه الودود. والطريقة الثانية التخلص من المطعومات الممنوعات المحرمات. إذا لمست المأكولات من المال الحرام معدة الإنسان يتنجس الجسد كله ويبتعد كل البعد عن تلمس الأنوار الفيضانية المقدسة. الطريقة الثالثة تكون مهمة للغاية، وهي الارتباط بمن يعرف حب ربه ويشرب من ينبوع عشقه وفي نفس الوقت يفيد الابتعاد عن صداقات المنافقة المكذبين أكثر فائدة في تحقيق الهدف العظيم. وكما نصحت رابعة العدوية رضي الله عنه تلميذه الوفي، فإن معاني الحب الإلهي تتحقق على أكمل وجهه عندما يكون المرء قادرًا على أن يستقبل في مجرى حياته جميع التجارب التي تأتي من الله خيرًا كان شرا، مؤمنا كاملا بأن كل حياته قراره الوحيد وأن ربه يحبه أكثر مما يحب العبد نفسه وأنه يعرف مدار حياته أوسع منه فيتحقق معانى العشق الإلهي الفائقة جميع نعم الدنيا والآخرة.
ومن ثمرات محبة الإنسان الله تعالى الشوق إلى لقائه. إذ من المحال أن يحب الإنسان شيئا ولا يحب لقاءه أو القرب منه، عجبا لأمر المحب كيف يستطيع أن يستر من محبوبه الذي قد فنيت حدود كيانه في ضرام العشق والشوق إليه، وإذا علم المحب لله أن لقاءه رهن بموته وخروجه من الحياة الدنيا ، فينبغي إذن ألا يكره الموت، بل الذي تقتضيه حقيقة حبه لله أن ينتظره وأن يستأنس بقربه لأنه السبيل إلى لقاء محبوبه ألا وهو الله ومثل هذا الإنسان لا بد أن يبادله الله حبا بحب، وهذا هو معنی قول رسول الله في الحديث المتفق عليه: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
ومن ثمرات محبة الله، الاستهتار بذكر الله، بحيث يتغلب ذكره الله تعالى على عوارض دنياه وعلاقاته، وعلى معاملاته اليومية مع الآخرين. وهم الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم : ‹سبق المفردون› قالوا: ما المفردون؟ قال: المستهترون بذكر الله عز وجل، يضع عنهم الذكر أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا .وهذه الثمرة غنية عن الريب أو النقاش، فإن من المعلوم أن من أحب شيئا أكثر من ذكره، وركن إلى الذين يكثرون من ذكره. والاستهتار بذكر الله يدعو إلى التلذذ بذكر الله في الخلوات، لا سيما في الهزيع الأخير من الليل، يزعجه الشوق إلى مناجاة الله وذكره في منامه، ويوقظه من رقاده، فلا يرى في تلك الساعة متعة ألذ إليه من الوقوف بين يدي الله يذكره ويناجيه ويشكو إليه تباريح وجده. والله الموفق….