بقلم علاء الدين الهدوي، فوتنزي
التوطئة
بعد حياة مليئة حافلة بالعطاء العلمي ولائحة طويلة من الإحرازات والتكريمات والخدمات الدينية والسياسية رحل عن عالمنا صباح اليوم السادس من شهر مارس 2022م العالم المفكر العملاق والقاضي العادل والداعية القدير والقائد الروحي والسياسي لمسلمي الهند ورجل السلام وسفير المحبة والوئام ورئيس رابطة المسلمين لعموم الهند ونائب رئيس جمعية العلماء بولاية كيرالا، والمدير الإداري لجريدة تشندركا اليومية، السيد حيدر علي شهاب باعلوي الحسيني عن عمر يناهز 75 عاما، تاركا وراءه تراثا فكريا غزيرا وفريدا، إنه شخصية قلما نجدها في نوايا التاريخ، حياة مع الكفاح والنهضة والتجديد والوقوف على وجه الثوريات الزائفة والنعرات التي تنادي إلى نبذ التراث والتقاليد والسنة، رجل لا يذكره أهالي كيرالا إلا قاموا له تبجيلا وتكريما، تقديرا لخدماته الجزيلة التي بها زرعت كيرالا برعمة متجذرة في خريطة الهند ذات التنوع والتعدد، ثقافة وحضارة.
وعلى الرغم من ذلك كله كان رجلا من العامة عاديا مثل سائر الناس، خفض جناحه للضعفاء وهو يطير في جو السماء، وصرف بصره وجعل همه في أسافل الناس وسوّى بين العباد وعدل فيهم، ولم يفرق أو يميز بينهم، وهذه الفكرة النيرة هي التي جعلته قائدا خريتا، وهو الرجل الذي غير مسار الأمة وجدد مصير الأقليات وحررهم من غطرسة السياسة ولعبتها، وولد فيهم قوة الوحدة، سيادة كانت لها رؤى متشعبة وأبعاد ذات فحويات عميقة، بعثت الأمل والرجاء وأحيت الطموحات الموؤودة رغم أزمات تكالبت على سياسة الأقليات في جمهورية الهند، حياة يحتضنها العطاء والبذل، والكرم والوفاء، إنه السيد حيدرعلي شهاب، ذكريات هابة بين المآثر الخالدة التي لها دوي وراء الزمان، وبعد رحيله من صفحة الدنيا يذكره الجيل بعد الجيل بكل حفاوة بالغة.
والرحيل ليس عالما محليا فقط، بل ذاع صيته في العالم العربي و خارجه، وهو نجم ساطع بدا في ساحة الهند، وهو نجيب تقي، عالم مشارك زاهد، عذب المنطق، فصيح اللسان، حسن الإيراد والإنصاف وسلامة الصدر، ويعتبر الرحيل من مشاهير العلماء المشهود لهم مشرقا ومغربا بالإحاطة والمعرفة الواسعة، فكان في قمة المعرفة العلمية والاطلاع على معظم المناهج العقائدية والاتجاهات الفكرية المعاصرة، برحيله انطفأ سراج أنار دروب علم العقائد والسنة المطهرة، وفاة االسيد هي فاجعة للمجتمع الهندي والعالم بأجمعه، وما أحوج العالم الإسلامي لمثل هؤلاء العلماء والمفكرين الذين أناروا الدنيا بعلمهم، ولقد قصر المسلمون في العقود الأخيرة ليس فقط في الدعوة إلى دينهم بل حتى في الاطلاع على حقيقته وفهم أركانه.
مسيرة النشأة وسيرة التكوين
ولد السيد حيدر علي شهاب باعلوي الحسيني في ١٥ يونيو ١٩٤٧م، بقرية فانكاد في أسرة نبيلة، وهو الابن الثالث للسيد أحمد بوكويا والسيدة عائشة تشيركونجي بيوي، وتعلم في مدرسة ديفادار في فاناكاد كما تلقى دراسته الثانوية في عام ١٩٥٩ في مدرسة أم. أم الثانوية بمدينة كاليكوت، وأمضى ثلاث سنوات مكبا على التعليم الديني في جامع كونالور قرب تيرونافايا، ودرس في كلية معونة الإسلام العربية بفناني لفترة قصيرة، والتحق في الجامعة النورية العربية بفيضاباد التي هي أقدم الجامعات الإسلامية في كيرلا وتخرج منها عام ١٩٧٤م، وفي عام ١٩٩٠م أصبح رئيس رابطة المسلمين الهندية بعد أن توفي أخوه السيد محمد علي شهاب، تزوج من السيدة شريفة فاطمة زهرة ابنة عبد الله بافكي من كوييلاندي، وأصله فهو من حضر موت كما ينتسب نسبه الشريف إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ويعد السيد حيدرعلي المجدد الحقيقي لدين الله في هذا العصر، بل هو المجدد الفريد الذي أظهر عمل النبوة من جديد وهو الدعوة إلى الله، وكان من الأساتذة البارزين في الجامعة النورية العربية بولاية كيرالا، وعندما تم تشكيل الهيئة الطلابية لسامستا في عام ١٩٧٣م وكان أول رئيس للهيئة، وشغل منصب القاضي في معظم المحال في نفس الوقت في جمهورية الهند، وكان رئيس رابطة الشباب السني بالهند، ونائب رئيس مجلس التعليم الديني الإسلامي لسامستا، عمل رئيسا لعديد من الجامعات الإسلامية والمعاهد الدينية بالإضافة إلى توليه رئاسة عدة مؤسسات دينية في الهند، كما كان رئيس تنسيق الكليات الإسلامية والرئيس التنفيذي لمجلة سني أفكار الأسبوعية، ودأبت هذه الأسبوعية على الصدور حتى الآن ونالت حظا كبيرا من النجاح والقبول.
أيقونة الصمود ورمز التسامح
إن المأزق الذي سلكه العالم البشري اليوم مهما كان دينيّا أو ماديّا هو من أكبر مآزق التاريخ الإنساني، لأنه مأزق يغير وجه العالم، ويسجل منحى جديدا، وربما ينسف تأملنا وطموحنا ويقضي على قلوبنا وكمائن لبّنا، وهو فقدان الشخصيات التي يُقتدى بها والرجال الأخيار، لكي يحل مكانهم الأوغاد، الذين يمتلئون بصور من الطمع والأحقاد، مما يؤدي إلى انعكاسات تسري إلى سائر المجالات والجوانب، ولا نتخلص من تلك القبضة المتجبرة إلا بالهمة والعبقرية، سياسة وثقافة وفعلا وقولا، فبينما تعاني السياسة الهندية من ضياع ماضيها، وتشتكي من ولادة تموجات من العنف والكراهية، نستذكر هنا السيد الذي غير مجرى التاريخ، وأنشأ جيلا يتحرك رهن إشارته بتأدب واحترام، وهو السيد حيدرعلي شهاب، رمز التسامح وأيقونة السلام والصمود، رجل احتل مكانته في قلوب الأمة الإسلامية، وحلّق فوق هامتهم مثل الديمة الغزيرة، لقد كان سياسيّا يعرف مدى الألم، وصدى الحلم، فما استقل برأيه وما استغل رعيته.
فإنه عجب يكاد يكسر المستحيل، ويسطر لفن التعامل الجميل، وهو أن شخصية لم تتقلد أية مناصب حكومية استطاعت التزام سياسة خاصة، هي سياسة التعطف والمواساة، حيث امتلكت مواقفه قوة التأثير والاندفاع في قلب الأمة، هكذا امتازت ولاية كيرالا ومسلموها عن سائر الولايات الهندية، وانتصبت مرفوعة الهامة أمام العالم، لقد اشتملت حياته على القيم والفعاليات البناءة، فما رأيناه منفرداً بعيداً عن الناس بل التفَّ حوله الآلاف، فكان منهم السياسي والديني والعامي والفرد العادي، فحقا إنه ميقات الأمل، وصوت الرجاء، وكوكب العمل.
فكلما ذكرنا هذا الشخص الموسوعي – الذي تتشعب سماته لتصل إلى سائر الأرجاء وتنتشر أشعته في الأجواء – ننتفض من غبار الآلام، ونعتز بخدمته للوطن وبذله الثمن، حقا إنه عنوان مجد الزمان، وسيقوم له الدهر بكل الوفاء والتبجيل، رجل لم يصخب في الأسواق، ولم يهيج الأشواق، بل أدى الحق على نهجه ومشى على دربه، إنسانية قبل التدين، هذه هي الرسالة التي تلخصت هذه الحياة الجليلة والشخصية النبيلة، جزاك الله يا سيد، لقد أبهرت خيالنا وطيبت أفكارنا، لقد بذرت الحب والشعب حصد.
الخاتمة
وفي الختام – ختامه مسك – لقد تولى المالك المقتدر حفظ الدين، وسخر له من ينهض به من الأشراف والكرام، الذين قاموا للدين ودافعوا عن الإسلام وضحوا بحياتهم لنشره ولم يخشوا في الله لومة لائم، منهم الأنبياء والمرسلون، والأولياء المتقون، الذين نصروا الله فنصرهم، وأحبوا الله فأحبهم، ورضوا عن الله فرضي عنهم، بذلوا لله ما عندهم من العلم والحكمة فصرف الله إليهم قلوب العباد وعزرهم بالقبول من الناس، فهم المقبولون عند الله محبوبون لدى الناس، وإلى هؤلاء السادات والأشراف ينتمي السيد الشريف الفقيد السيد حيدر علي شهاب رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، الذي كان منقطع النظير في خدماته الدعوية وأعماله الجلية لنشر الدين وتحقيق الأمن والسلام بين الأمم المختلفة المتخالفة، ولم يكن لحياته مقصود سوى أن تكون كلمة الله هي العليا، وبذلك صار سيد السادات ونقيب العلماء ورئيس الحكام والأمراء، فمثل هذه الشخصيات البارزة جديرة بمزيد من الذكر وحريٌّ بها ألا تُنسى ولا تُمحى من سجل التاريخ، وألا تختفي وراء سدول النسيان والخمول مع انتقالها من دار الدنيا إلى دار البقاء، بل ستستمر حية وتدوم سرمدية عند الله وفي قلوب الناس، كالمطر ينزل من السماء ثم ينقطع ولا تنقطع فوائده بل تستمر منافعه وتتصل حصائده