بقلم مصطفى الهدوي
انطفأ مصباح من مصابيح كيرلا التي كانت ملجأ من ضاقت به الحياة ذرعا وملاذ من انسدّت أمامه جميع طرق الآمال والأحلام وبوّابة مفتوحة لمن أغلقت أمامه جميع أبواب الاطمئنان الروحاني ومشكاة من تاه في ظلام الحياة الدنيوية. نعم يا سيد حيدر علي شهاب، كنت لنا قنديل الدجى ومنديل الهفوة، كنت قبلة المحتاجين ومنارة رائعة يسترشد بها من سلك العالم الروحاني.
كان الراحل شخصية قلما نجد مثلها في صفحات التاريخ، حياة مع الكفاح والنهضة والوقوف على وجه السيادة في المجالات الروحانية والسياسية. صوفي لا يذكره علماء كيرلا إلّا قاموا له تكريما، قائد سياسي لا يذكره السياسيون إلّا صمتوا له تبجيلا، تقديرا لخدماته الجزيلة في المجالات الاجتماعية والثقافية والروحانية.
في غمار سيادة الأمة:
وبعد أن أكمل السيد تعليمه الابتدائي من مدرسة ديفادار ببانكاد والثانوي من مدرسة أم أم الثانوية بكوزيكود عام ١٩٥٩ وممارسة العلوم الدينية من كلية معونة الإسلام العربية بفنّاني لفترة قصيرة التحق السيد بالجامعة النورية بفيضاباد ليمارس دراسته العالية في العلوم الإسلامية، وخلال دراسته في الرحاب ما كان يقضي أوقاته في التعلم فقط، بل كان يعكف أيضا على تنسيق نشاطات متنوعة في مجال الدعوة وخدمة المجتمع. ولمّا أسست اللجنة الخاصة للطلاب المسلمين بعموم كيرلا (أس أس أف) سنة ١٩٧٣، جعله علماء جمعية العلماء لعموم كيرلا في منصب رئاسته، اقرارا لمهاراته الممتازة في تنسيق الأنشطة التي كانت الأمة المسلمة في حاجة ماسة إليها في تلك الأيام. ومن هنا شهدت الأمة قائدا ناضجا ومتفوقا بمهارة التنسيق والسيادة. وكان أول من شغل منصب القاضي في نفس الوقت في معظم المحالّ في ولاية كيرلا.
أجلسته الأمة على مناصب عديدة كمنصب الرئاسة للمجامع والجامعات والقضاء لكثير من المحال في شتى أنحاء كيرلا. وحينما توفي كان رئيس رابطة المسلمين الهندية بولاية كيرلا، ومديرا إداريا لجريدة تشاندريكا الماليالمية، ونائب رئيس جمعية العلماء لعموم كيرلا. وكذلك عمل كرئيس للجامعة دار الهدى الإسلامية بتشماد والجامعة النورية بفيضاباد، ومركز كوندور، ومركز والانشيري، ومجمع دار النجاة بكارفاركوند، بالإضافة إلى تولية رئاسة عدة مؤسسات دينية في ولاية كيرلا.
نشأ السيد حيدر علي شهاب في قالب شهابي يتحلّى بالوسطية والتصلب في الأصول والأسس، هنا يصنع التاريخ رجلا مثاليا في عمقه الوفاء للأمة والمجد والكرامة، عبقريا صنع أمة ترنو إليها الأمم. بعد وفاة أخيه الكريم السيد محمد علي شهاب، أجبره قوّاد حزب «رابطة المسلمين في نقاب الهند» على تولي مقاليد رئاسة الحزب. وبعد أن تولّى الرئاسة سنة ١٩٩٠ أخذ يمشي على الأثر الذي كان أخوه يمشي لحدّ أن انجذبت إليه شخصيات تنتمي إلى شتى الأحزاب والفرق من العلمانية والشيوعية والسلفية.
ما كان له وقت يستريح فيه بدون شغل ولو للحظة، تبدأ أيامه بصلاة التهجد وتمر طوالها برامج دينية واجتماعية وثقافية متنوّعة. وخلال هذه الأيام المشغولة للغاية كان يعيّن يوما خاصا في كل أسبوع لسماع شكاوي عامة الناس وأحزانهم، فيستقبلهم جميعا بقلب واسع، بغض النظر إلى دياناتهم أو فئاتهم المختلفة، ويستمع إليهم واحدا إثر واحد، ويقدّم حلولا شافيا لقلوبهم المتألمة ومناشف روحانية ماسحة دموعهم المتدفقة، كانوا يأتون بالدموع والآلام ويرجعون إلى بيوتهم بوجوه باسمة وقلوب مرتاحة . وكان يهتم الرحيل بصدارته في المناسبات المختلفة كمجالس النكاح وصلوات الجنائز وحلّ المنازعات والمشاورات وافتتاح المؤسسات الثقافية والعلمية والدينية والتجارية. هكذا كانت مقبوليته بين الناس وهكذا كانت ثقتهم التامة به، وبهذه الثقة شاهدنا المسلمين في كيرلا يلتجئون إلى قراراته في أوقاتهم العصيبة والحرجة راجين منه ترياقا لآلامهم المزعجة، وحتى السياسيون كانوا يشاورونه في حل القضايا الجوهرية على طاولة اهتماماته. فالكلمة الهادئة الصادرة من فيه هي ما تنجاز إليها ضمائرهم الحية، فتنطفئ بها نار الخلافات والصراعات. والسبب المحوري في تجمع الشعبية حوله، هو ابتسامه الخالص وقلبه المفتوح المتحرر أمام الجميع وقراراته العادلة في القضايا المعقدة التي عجز السياسيون أمام حلها بشكل صحيح. فحقا، أن هذا الرحيل كان بلسما لهذه الأمة، كان لا يؤيّد ولا يقوم خلف من يخالفون هذه الأمة قولا أو فعلا، بل كان يدفعهم بابتساماته الأخّاذة وكلماته الجذّابة.
هكذا خلّد السيد حيدر علي شهاب دعوته وحياته، فكان سيد الأمة ومرشدها ومدير المجتمع ومربيها. شخصية سار مع قلب الأمة توعية وضميرها تجديدا، ولن يتراجع عن صلته المتين بالتراث الوهاج، وبرحيل هذا القائد الأعظم والمرشد الأعلى فقدت الهند بشكل عام وولاية كيرلا بشكل خاص رجلا نذر حياته الشخصية وأوقاته الثمينة لخدمة المجتمع ومساعدة البائسين والمنكوبين سواء كانوا مسلمين أو غير المسلمين وإرشاد الناس نحو نهج السداد وطريق الرشاد، جمعنا الله معه فسيح جناته وتغمده بواسع رحمته، آمين.