أدب النحاة والبلاغيين في القرآن
بقلم صبغة الله الهدوي، الباحث في الأزهر الشريف، قسم البلاغة والنقد
يروى أن الإمام سيبويه رحمه الله عالم النحو الجليل رؤي في المنام بعد موته فقيل له ماذا فعل الله بك يا إمام ؟ قال غفر لي وأدخلني الجنة .. قيل : بمَ ؟ قال : لأنني لما وصلت باب المعارف ووصلت إلى لفظ الجلالة الله قلت في كتابي “الكتاب” : الله أعرف المعارف لا يعرَّف، وعلى افتراض صحة الرواية ففيها أدب مع الله سبحانه لا يخطر على بال أحد وكان بإمكانه أن يصرف اللفظ لكنه أدرك هذا الأدب من حيث لا يدري كثير من الناس، فلو قيل إن إعرف المعارف الضمير فالمراد هو بعد لفظ الجلالة إجماعا.
فالحديث عن أدب النحاة مع الله والقرآن الكريم حديث ذو شجون، كانوا لا يجترئون على وضع أي اصطلاح فيه شوب استكبار واستخفاف بحق الله، فلا يقولون في قوله تعالى ” خلق الإنسان من عجل” إنه فعل مجهول مبني على الضم بل يقولون فعل لم يسم فاعله لما أن فاعله معروف، وحتى عدم ذكره صريحا يدل على صراحته فإن الصمت في حرم الجمال جمال، أو أن السكوت في معرض البيان بيان، ولا يقولون إن في القرآن زيادة حرف أو كلمة، بل يعبرون عنها إنها صلة ورابطة، جاءت لتؤكد المعنى وتقوي دلالته، فمثلا في قوله تعالى “ليس كمثله شيء”، أو “لا أقسم بهذا البلد” أو “لا أقسم بيوم القيامة”، ” هل من خالق غير الله”، لا يقولون إن الكاف زائدة ولا اللام زائدة ولا من زائدة بل كلها صلة ورابطة، بل لكل حرف من حروف القرآن زيادة معنى وتأكيد دلالة كما هي تتجلى بوضوح في واو الثمانية في قوله تعالى “وثامنهم كلبهم” وفي ألف العزة في قوله تعالى “وعباد الرحمن” وفي ياء الذلة في قوله تعالى “وما أنا بظلام للعبيد”.
إنهم لا يقولون إن في القرآن تجاهل العارف مثلا في قوله تعالى ” فما تلك بيمينك يا موسى” أو “وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين” بل يعبرون عنه كما وضعه السكاكي رحمه الله إنه “سوق المعلوم مساق المجهول” أو “مساق غيره” حيث قال “ولا أحب تسميته بالتجاهل”، لأن التجاهل مستحيل في حق الله تعالى.
ولا يقولون في قوله تعالى “واتقوا الله ويعلمكم الله” أن الله نصب على أنه مفعول به بل نصب على التعظيم والهيبة إكراما وإجلالا بلفظ الجلالة التي يعلو ولا يعلى عليه كما يحكى في مذكرات أديب الدعوة محمد الغزالي رحمه الله ” سألني مدرس النحو وأنا طالب في المرحلة الابتدائية قائلا: أعرب يا ولد “رأيت الله أكبر كل شيء” ؟؟ فقلت على عجل: رأيتُ: فعل وفاعل، والله منصوب على التعظيم! وحدثت ضجة من الطلبة، ونظرت مذعورا إلى الأستاذ، فرأيت عينيه تذرفان بالدموع! كان الرجل من القلوب الخاشعة، وقد هزّه أني التزمت الاحترام مع لفظ الجلالة كما علموني ، فلم أقل إنه مفعول أول، ودمعت عيناه تأدُّباً مع الله! كان ذلك من ستين سنة أو يزيد… رحمه الله وأجزل مثوبته.
وإن أعربوا كلامه تعالى “اهدنا الصراط المستقيم” أو “ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها” قالوا إنه طلب أو دعاء وليس أمر الذي فيه نكهة العلو والاستعلاء والله هو العلي القدير، وفي قوله تعالى ” ليقض علينا ربك ” إنه لام الدعاء وليس لام أمر كما يقولون في قوله تعالى “لا تؤاخذنا بما نسينا إن نسينا أو أخطأنا ” إنه لام دعاء لا لام نهي الذي فيه شوب العلو والاستعلاء.
فبخصوص السجع المعروف عند الشعراء يعني توافق الفاصلتين في الحرف الآخر قالوا إنه لم يك سجع في القرآن الكريم وإنما فيه الفواصل لأن السجع من شيم الكهانة حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم “أسجع كسجع الكهانة”، كما قالوا ثم إن الفواصل تتبع المعاني حتى عده الرماني وجها من وجوه الإعجاز بينما السجع عبارة عن التكلف والتعسف كما كان مسيلمة الكذاب يعارض القرآن بكلمات مسجوعة فيها تكلف وتعسف، وكان يجر الألفاظ جرا.
وأما بخصوص باب التصغير قالوا لا يجوز تصغير أسماء الله الحسنى، لأن ما كان لله عظيم حسن جميل”، وقال ابن هشام أن نقول في من الموصولة إنها للعالم بدلا من العاقل لأنها تأتي ويراد به الرب تعالى والرب لا يقال عنه عاقل كما في قوله تعالى أأمنتم من في السماء ، فلا تقول من للعاقل في هذا المحل لأن الله لا يوصف بالعقل والله يوصف بالعلم.
فلو قيل لك ما المراد بالكتاب إذا قيل مطلقا أهو كتاب سيبويه المعروف بقرآن النحو والذي أصبح علما بالغلبة كما احتجه ابن عقيل في شرحه لألفية بن مالك شاهدا لبيت “وقد يصير علما بالغلبة مضافا أو مصحوب أل كالعقبة”، أم هو كتاب الله الذي قال الله فيه “ذلك الكتاب لا ريب فيه”، ففي ذلك يقول الآثاري في خاتمة ألفيته تحت عنوان خاتمة الفصول “وحيثما قيل الكتاب انهض إليه كتاب ربي لا كتاب سيبويه.
ولا يخفى أن هناك مدرستين في النحو، مدرسة كوفة وبصرة، لكل منهما آراء خاصة بهما، فمن تلك الآراء التي اختصت بها مدرسة كوفة والتي تدل على أدب مع الله قولهم في ” أفعل التعجب” إذ قالوا أفعل التعجب اسم حتى يصغر كالأسماء ولو كان فعلا لأوهم إساءة الأدب في حق الله في قولهم ما أعظم الله والتقدير شيئ أعظم الله.
فمن العلماء الذين انبروا لهذه القضية ابن هشام والطبري والآثاري وابن مالك والأزهري تنبيها إلى العظمة والإجلال مع الله.