بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، جبار الأرض والسماوات، المنـزّل في قرآنه “الصف” “والصافات”، والصلاة والسلام على رسولنا محمد صاحب الكلمات القدسيات، والهبات الإلهيات، وعلى آله وأصحابه الذين نهلوا السلاسب النبويات، وفتحوا أسرار النور المطويات…أما بعد.
فنحن في هذه الأيام، من مشارف رجب وشعبان حينما نستطلع إلى زخارف رمضان بعيون متهللة وقسمات بشوشة، نجد بين حنايانا شوقا يصبو إلى استنشاء نفحات شهر رمضان، واستنشاق نسائمه البهية، وخلف جوانحنا شظايا تكابد ما بين طياتها من حسرة ولوعة، ولهفة وحرقة، وحيال مرايا قلوبنا يتعاكس الوحي الرباني، ويتطاير من نواياه أشباح الجماليات والجلاليات.
ولكن مهلا ياصاحبي، قف على ما قدّمت يداك وما شرّدته أنامل أفئدتك من معنويات جميلة، وموازين ومعان مزركشة، هيا قف مع عقيدتك ونفسيتك، ونفساتك ونبضاتك، قف مع معتقداتك وخواطرك، وشعورك وعقلانيتك، وهواجسك ومشاعرك، وابعث إلى كوامنهن نفخات التجديد، وانفث بين خباياهن ثورة القيامة والنهضة، فخلفك ترّهات لا ترشح بغير الصديد، وأمامك شذرات تهدي إلى حصن الأمل السديد، ولقد طغت على شاعرنا مكايد زمن منهدّ المباني، ومنسد المعاني والأماني، تناثرت في ساحته زقّوم الأباطيل والأكاذيب، وهبّت على طهره سموم اليأس وحميم النحس، ألم يمددك الله بعروته الوثقى التي لا انفصام لها، ألم يهدك الله إلى سدرة السعادة المنتهى، فاجعل من أعمالك نصيبا لرضاه.
أما شهر رمضان، شهر الهدى وبينات من الفرقان، وشهر السحر والعطر { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ففيه تتم مسارح العظام ومرابع الكرام، ويكتنه فيه العبد مقاصده، ويستشرف على بواطنه، فيرى في قلبه جذوة يؤانس بها رب العالمين، ويروح نشوانا في حوانيت السكرة الإلهية، ويحمل فوق صدره رسالة سامية للأمة، التي تحتوي على مغزى الإرشاد والإقبال، ويتجدد بها الشعور، ويتنفس بها التقوى، فيصبح مثل ما ولدته أمّه، بريئا من قذرات الذنوب ومجيدا في بلاط القلوب.
يقول رسولنا (ص): “إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشرّ أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة” فيا ويل من تبدّدت أمامه مضايق السبل، وتشتّتت أمام تفكيره تعاليمه المختصة، لن يبقى من خفايا خلده إلا النزر اليسير من الإيمان، ربما يشتعل منه قبس يتجبّر على مواقد النور وفراقد الوهج الرباني، وربما ينكمش تحت مناسم الغفلة وسنابك الأهواء المبهرجة بلا حياة ولا فناء، وفوق تدبيرنا لله تقدير.
لقد تفاذفت بنا مطامع الحياة إلى وِديان الظلام والعتمة، وتناحرت بين نفساتنا الكلمات والمعاني، ونحن على هذه الفظاعة المستبشعة، ندخل إلى شهر رمضان ونتعمّق ونتلاشى في صلبه بلا أصالة أثيلة، فنتهادى بين خرائب وأطلال، ونتشعّب تحت جذور الضلال برفات هرمة، فكيف الخلاص ولات حين مناص.
هياّ بنا، نستوثق روابطنا مع الله قبل وصول شهر رمضان، ونقتبس من مشكاة النبوّة، فقد طال بنا الأمد وتعالى علينا الزمن، وقد حكى لنا ابن قيّم الجوزيّة في كتابه “زاد المعاد” عن قصّة أصحاب رسول الله (ص) وقد قدموا إليه وسألوه أنّك تواصل فى الصّوم يا رسول الله، فقال رسول الله (ص): “لست كهيئتكم، إنّي أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني”، فاذهل أيّها السامع بوقفات مبجّلة أمام هاتيك الكلمات، وصلّ صلوات التحيّة أمامها. لقد دارت حياتنا حول المادّة والمعدة، واستدقت أعيننا حول النفس والنفائس، فكلّ شهر رمضان بالنسبة إلينا مسيرة إلى التمكين من الدنيا وما فيها من أمتعة الغرور، {فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرت الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.