الانتخابات البرلمانية القادمة في الهند “الدولة الديمقراطية الكبرى” تمثل المرحلة الفاصلة التي تتمخض بعدة نتائج حاسمة سياسية، إما هي عودة الدستور من جديد أو هي وأد المبادئ الهندية المقدسة وطرحها إلى البعيد، وقد أصبحت أخبارها وأهم تحركاتها محط أنظار العالم وحديث ركبان المحللين السياسيين، فيهم من يتنبأ بعودة راهول ليتم القضاء على جبروتية مودي وفيهم من يقلق باستمرارية مودي الذي لا يتزلزل من مقامه ولا ينزلق بسهولة، فالشعب الهندي الذي طالما انخدع في شعوذات مودي لمدة خمس سنوات غير معقول لاختياره للمرة الثانية لا سيما في الوقت الذي انطفأت الهالة المودية التي كانت المحركة الأولى والأقوى لضرب حزب كونجرس الذي لم يتعلم من التاريخ ولا حتى من الواقع، ويتجلى أمام كل مراقب ومحلل سياسي عن حجم التوقعات والتوترات التي تراود الأقليات الهندية وفي مقدمتها المسلمون.
هذه السنوات الخمس العجاف لم تأت بخير لهم بل كانت زمنا قاسيا حالكا تحركه الشعارات الهائجة والدعايات الزائفة، من فرض قانون المدني الموحد وإعادة معبد راما في موقع المسجد البابري وإجلاء المسلمين إلى باكستان وتشريد مسلمي آسام إلى بنجلاديش، فثمت أمثلة مريرة ومؤلمة تلوح وترسم عن مدى الغضب والثورة التي تكنها صدور المسلمين، فمنذ أن اعتلى نريندرا مودي عرش الجمهورية كانت الشريعة وشؤون الأقليات على مرمى زناده، وتحين الفرص لاستفزاز المسلمين وتهييجهم حتى يولد منها موطنا للشغب والصخب، وبالمقابل فإن مؤتمر الهندي الوطني الذي يصفه المسلمون بالأخف خطرا والأكثر خيرا لا يتخلص من التهم اللاذعة، وحتى الآن لم يتشف من أمراضه القديمة من الصراعات الداخلية والخلافات الأسرية وتطاولات الأعناق إلى بلاط العاصمة، بل لم يغتسل من جنابته يعني تعبسه عن المسلمين وتقاعسه عن إقامتهم في منصب الترشح، وكالعادة تقوقع المسلمون في التشرذم والضياع، وتشتت أصواتهم في زوايا مختلفة بين الذين يدعون لأنفسهم حماية العلمانية وبين من يضعون مسؤوليتهم على كاهلهم، لكن في هذه المرة لا بد لهم من فكرة عميقة ومراجعة دقيقة حتى لا يتكرر الخطأ الفادح الذي ارتكبوه في محافظة أتر برديش التي تضم أكثر عدد من المسلمين والتي فيها مدارس إسلامية لها شهرة أمثال دار العلوم بديوبند وندوة العلماء بلكنهو ومدارس التيار البريلوي ومع كل هذا العدد والعتاد خسروا وخابوا في تنصيب مرشح مسلم في الانتخاب الرئاسي الماضي بل حصد فيها بهارتيا جنتا نصف مقاعدها إلى أن تحققت خرافة ” قوة المسلمين”
.مودي ذي الأوتاد
حاكم تولى العرش بأفواه مطبلة وراحات مصفقة وأتباع آمنوا بعصمته لم يكن بالنسبة للأقليات رجل عدالة وصاحب دستور، خمس سنوات عجاف ممزوجة من القتل والمطاردة، تفنن فيها القمع وتقنن فيها العنف والسيف وتلونت فيها الآثار الإسلامية بدماء التطرف والإرهاب، ومن جانب آخر خطابات معسولة ومخللة بتوابل العدالة والتنمية، عن الوطنية والجيش والتضحية، عن التقدم الغد الباسم، عن روح التراث الهندية وعن الوحدة وعن احتلال باكستان وعن قضية كشمير المشتعلة، لكن كل هذه المسرحيات لم تلق في قلوب المسلمين شعور الأمن والراحة، وبقوا ماثلين أمام بعبع سيبتلعهم ويمزقهم، ولم يبتعد من ذكرياتهم الراسخة في عمق التاريخ ذلك الجزار الذي صرخ في أكداس من رؤوس المسلمين وجثثهم في غجرات عام 2009 “إما باكستان أو قبرستان”، وكان نريندرا مودي وزيرها الأعظم وربها الأكبر، وتعرضت فيه حارات المسلمين للإبادات الجماعية، أحرقت بيوتهم وأهرقت دمائهم بلا رحمة، وأردت المئات قتيلا وجريحا، والأكثر تجهما وألما أصبح مدبرها رئيس وزرائهم وصاحب كلمتهم الأولى، إنه نريندرا مودي وقائمته السوداء من “أميت شاه” و”موهن باغوات” و”يوغي آدهيتناد” وغيرهم من الذين تلطخت أرواحهم بدماء الأبرياء المهدورة، وتلك ذكريات مؤلمة لا تزول من شغاف القلوب ببساطة، وقد تحطم أمام أعين الذين اعتقدوا أن الدستور هو الكل في الكل وأن الديمقراطية والعلمانية عيناه البارقتين حلم الانتخاب البرلماني لو نجح مودي وحاشيته للمرة الثانية.
فإن الآمال التي تخيطها الديمقراطية في قلوب الأقليات لكبيرة الحجم، وهي وحدها تلملم شتاتها وتجمع أفلاذها، لا سيما في زمن قتل فيه العشرات لمحض أنهم ساقوا البقرات لعيد الأضحى بل إنهم ساقوها تحت ظلال القانون الذي يفرضه الدستور ويؤكده البرلمان، وأما المسلمون العدو الأكبر اللدود كما يحب حزب بهارتيا جنتا ليصفهم فيقمعهم ليست بحوزتهم ما يوقف هذا المد الفاشي الذي يندى له جبين هتلر، وعلى حد تعبير رانا أيوب الإعلامي الهندي صاحب الكتاب المثير الجدل “غجرات ملفات وراء الكواليس” إن الهند التي يعيشها المسلمون كابوس يكاد يقضي على مستقبلهم، وعلى مدى خمس سنوات تحت عباءة مودي تصاعدت الصراعات الطائفية وتكثفت الاشتباكات الدموية التي نصبت الهند كدولة آثمة في المنصات الدولية، وحتى في هذه الأيام التي تتوب فيها الأحزاب وتكفر للجرائم والسيئات بحثا عن القبول والشعبية لم ينخلع حزب بهارتيا جنتا حزامه الناسف لدرجة أن سمعنا من محافظة هريانا أخبارا مسعورة تأتي من جحيمها بأن عصابة هندوكية متطرفة أساءت بالظلم لعائلة مسلمة بشعارات باكستانية، وهذه الموجة الطائفية التي ألهمت كثيرا من أتباء بهارتيا لم تصنع في الهند إلا سياجات شائكة ملغومة بالعداء والعنف، مطوقة بالتطرف والإرهاب، مصبوغة بسواد القمع والإساءة.
راهول غاندي الشاب القوي الأمين
للأسرة الغاندية قبضة كبرى وقوة لا تزول من قلوب ملايين الهنود، إسهاماتها وتضحياتها لم تزل عالقة بأستار ذكرياتهم، ولا يذكر الاستقلال إلا والغاندي أصبح خبرا له أو فاعله، وقد كانت الهند تحت هذه الأسرة قوية أبية وآمنة مطمئنة إلى حد بعيد، بدء من جوهر لال نهرو الذي كان رجل همة وصاحب مبادئ، ومرورا بإندرا غاندي المرأة الصامدة القوية واستمرارا براجيف غاندي الشهيد، ثم كانت النوبة لسونيا غاندي زوجة راجيف المغتال إلا أنها تنازلت عن عرش الرئاسة وبقيت ربة كونجرس التي يصفها الأعداء عجوزة شوهاء بلغت أرذل عمرها ولفظت آخر أنفاسها حتى نجحت كونجرس تحت قيادتها مرتين متواصلتين، ثم أصبحت كونجرس تخفو وتطفو حتى اندكت أسوارها الفولاذية وتسللت الشعارات العنصرية داخلها وخارجها ولم تكد تصمد أمام الإعصار الهندوكي الذي أطلقه حزب بهارتيا جنتا ذو الطابع الهندوسي الذي لا يهتم إلا بإعادة التراث الهندوكي القديم المندرس وإلا بتهديد المسلمين وتخويفهم بفزاعات باكستان وبابري.
حقا كان حزب بهارتيا جنتا معارضا قويا يستطيع لتحطيم أحلام كونجرس التي استصغرت رمادها وتكشرت من شررها، حتى واجهت الطامة الكبرى في تاريخها إذ جلست في البرلمان الهندي الذي كانت صاحبها وربها مع أعضاء دون الخمسين، والأكثر عجبا إنها هي الحزب الوحيد الذي اكتسح ثلثي مقاعد البرلمان في الثمانينات، وبقيت تعض على أناملها، ثم قامت عليها القيامة إذ رأت عدة زعماءها وقادتها ووزراءها يتسلون منها لواذا، ويلتجئون في خيمة مودي ذي الأوتاد، لا غرو لو وصفت هذه الفترة بأحلك الفترات التي واجهت كونجرس في تاريخه التليد، من جانب يطلق الشيوعيون الانتقادات اللاذعة ويحملون مسؤولية الفشل على كواهل راهول الشاب، ومن آخر يوجه مودي وشيعته هجمات سياسية قاتلة ويشن غارات بنكهة هندوكية وفي نفس الحين يهدهد مشاعر الهنادكة للإطاحة بكونجرس، وعطفا على ذلك سيول من الصراعات الداخلية الشرسة، كل يتواكل ويحمل مسؤولية الفشل على الأخر.
إلا أن راهول الشاب الذي تزمززم من أجداده رحيق البطولة والعزيمة لم يتراجع ولم يودع السياسة وداع المذلة والهوان بل استقر واستمر في الميدان ولاح في الساحات ببدلاته الجديدة التي تعبر عن شجاعته وقوة إرادته التي تجهزه للصمود في ساح النضال، تغيرت خطاباته وتلونت أساليب حواراته، كأن الزمن ملأ فيه كيانا حيا بعد أن تحطمت روحه وتثقبت نفسه، فتلقى آذانا صاغية وقلوبا واعية مرهفة الحس وحادة النظر إلى كلماته وعباراته التي تموج وتمس كبد الحقيقة، ومن أروع أمثلتها خطابه الذي ألقي في الإمارات العربية المتحدة، ذلك الخطاب الذي رأى فيه العالم ميلاد المسيح المنتظر وموعد النصر والتمكين، ذلك الخطاب الذي أحيى الأرواح الهامدة وأجرى الترع الراكدة، خطاب مفعم بالأمل وبعودة العدالة وبأن الصباح لم يزل في الأفق إلا أن السحب حجبته وبأن الشمس على ميعادها قادمة لتبديد هذه السحب القاتمة وبعثرتها من جديد.
راهول الغاندي الذي تعثر في أول مسيره وحبا في رحابه أصبح الآن سياسيا محنكا يستمد من أجداده روح القوة والعزيمة، ويستلهم من الدروس التي أملتها إليه جده وجدته حتى وقف بهامته الشامخة ورؤيته الحادقة في وجه المودي الذي لم يزل يحلم بالعرش ولم يزل يثق ويؤمن بألوهية خطاباته وعبودية أتباعه السذج.