بقلم صالح عوض
في الشق الذاتي للنهضة ينبغي تدبر العملية بتكامل مفاعيلها الأساسية والتحرك على خطوط متوازية لإنجازه، و في الوقت ذاته يتم التحرك نحو انجاز الشق الموضوعي بعلاقة مع الآخر تجنبنا التصادم الانتحاري وتحررنا من ذل التبعية، ويكون العمل الدقيق على ضوء فهم الترابط بين الشقين هو ما يسهم في إبراز الكيان الحضاري المتميز للمجتمع والأمة واقعا في حياة الناس والعلاقات الدولية أخذا عطاء، ومن الضروري إدراك أن العمل لانجاز بعض الشق الذاتي أو إغفال الشق الموضوعي سيؤدي إلى اختلالات تنتهي بالفشل والخسارة والخيبة ويصبح كالجسم المختل في بعض أجزائه.. إنّ العمل المتكامل على الخطين برؤية حضارية متوازنة سينقلنا من واقع إلى أرقى وأقوى على سلم تصاعدي مزود بقوة الدفع المتجددة.. ما هي الحلقات الذهبية للنهضة الحضارية؟مسلسل الفشل:لقد أشبعنا في بلادنا العربية فشلا وإخفاقات جرّاء مشاريع منقوصة مضطربة نزقة متطرفة وضعت قيد التنفيذ في الاقتصاد بكل أبوابه والتعليم والثقافة وشتى مناشط الحياة وفق برامج لا علاقة لها بخصوصيات المكان وأولوية حاجيات إنسانه، وهكذا غاب الاهتمام بالجغرافيا وعطاءاتها، مشاريع تخلت عن عناصر قوة طبيعية في المجتمع وتحركت بمنهجية تبديد عناصر القوة المطلوبة على سلم أولويات حقيقية تؤدي إلى اكتفاء وامتلاك، واشتركت السياسة العرجاء والثقافة العوجاء في إزاحة المجتمع عن صيرورته المنطقية والطبيعية لاسيما وقد سبق له ان حقق انتصارات إستراتيجية في معارك التحرير..وكان الفشل المتكرر هو سمة المشاريع التنمية والنهضة الثابتة،
وهكذا استمر قانون التبعية وواقعها يكبل حركة المجتمع والأمة وينتهي بالإحباط والفقر والأزمات الاجتماعية وضياع البوصلة.ومن حق شعوبنا أن تؤكد أنه قد آن الأوان لمراجعة فكرة النهضة والتطور وعملياتها التي مورست خلال عقود طويلة بدأت بعد خروج الاستعمار المباشر من كثير من بلداننا العربية والإسلامية، هذه الفكرة المبعثرة والمخربة والمميتة، على اعتبار أن النهضة هدف مقدس وهو النتيجة الطبيعية التي يقود إليها الكفاح الوطني وجملة نشاط المجتمع وهو الذي ينبغي أن يحقق جملة ما تسعى إليه مجتمعاتنا من أمن واستقرار بمعنى أنها فكرة الحياة المناط بالفرد والمجتمع النهوض بها وتكريسها واقعا كما قال تعالى: ” إني جاعل في الأرض خليفة”، ” يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه”..أجل إنها مهمة متواصلة وعبادة يقوم بها الإنسان لإعمار الأرض وتنميتها مما يجعلها ميدان الكدح والاجتهاد لتوفير النفع والسعادة الدنيوية التي تشمل الأسرة البشرية بلا تمييز.. ومن أعرض عن هذه المهمة سوف يعيش الضنك والشقاء كما يقول سبحانه وتعالى: “ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا”خطوة منهجية:وهذا يعني بوضوح انتقال الخطاب من الأيدولوجيا ومعاركها الى المنطق العملياتي وخطواته ومراحله.. إنه لمن باب الشقاء أن تنشغل نخبة مجتمع بمسائل فلسفية فيما تقف الأمة على حافة الضياع والاستباحة التامة وهل يعقل أن تكون العملية تلك بريئة وليس من خيوط استعمارية تمتد في عروقها؟..
وعلى ضوء ما نشاهده من حين الى آخر نكتشف كم هي عبثية الاشتباك في حيز الايدولوجيا الخاصة بهوية المجتمع والدعوات المغرقة في التخلف العنصري المفرقة للجماعات البشرية والمهلكة لشبكة علاقات اجتماعية أساسية.. ولعلنا بنظرة سريعة الى الحضارات المعاصرة باليابان وأوربا وأمريكا نكتشف أن هناك قضايا قد حسم الأمر بخصوصها ومن غير المسموح أن تثار من جديد، ويمارس تجاهها القمع باعتبارها دعوات عنصرية، ويمكننا التأكد من ذلك بما يحصل بأمريكا وأوربا وسواهما الدولة لا توزع أيديولوجيا ولا تصنع وجهات نظر إنما عليها الانهماك في إدارة مشاريع النهضة وتوفير شروط النجاح لها و صون المجتمع بتكريس القانون واقعا في حياة الجميع على اعتبار ان الجميع يشترك في المواطنة ولا فضل لأحد على احد الا بمقدار ما يقدم من خير للمجموع والتزام بالقانون.
من هنا تبدو خطوة الإنعتاق من التجاذبات الأيديولوجية الخاصة بالهوية وجعلها خلف الظهر نقطة انطلاق حقيقي نحو النهضة ولابد من التأكد أن مثل تلك التجاذبات لا تولد إلا في لحظات الضعف المجتمعي والمؤسساتي.. ولكنها تتلاشى عندما تسكن المجتمع روح المقاومة والحياة ويصبح التذكير بها حينذاك مظهرا للتخلف والعنصرية والتفرقة والفتنة.. وهكذا نكون قد أنجزنا الأرضية الصحية المناسبة للتحرك على خطوط التوازي لانجاز شق النهضة الموضوعي..
ومن هنا بالضبط ندرك خطورة ما تقوم به الدوائر الاستعمارية في مراكز التبشير والإستشراق ومراكز البحث الخاصة بمجتمعاتنا من تثوير حالات التنازع العرقي والجهوي والطائفي في بلداننا على اعتبار ان ذلك هو المعرقل الحقيقي عن الانطلاق للاستقلال والاستقرار والنهضة.الأمن الإقليمي:العقل الاستراتيجي يدرك جيدا أنه لابد من توفير شروط الأمان والاستقرار لنجاح مشروع التنمية والنهضة لبلد ما ولعل الأمن الإقليمي أحد أهم الحلقات الذهبية للنهضة.. لأن العكس يعني استنزافا للثروات والإمكانات والاستقرار، ويصرف حركة الدولة والمجتمع الى إهدار الطاقة الأساسية في معارك لا فائدة منها كما هو حاصل بين الهند وباكستان او بين السودان ومحيطها أو بين إيران والإقليم.. والأمر يدعو الى الانتباه ان تصفير المشكلات الإقليمية مسألة أساسية وهي أقل القليل وينبغي البناء عليها بتطوير العلاقات الإقليمية بتكامل اقتصادي وشراكات أمنية عميقة لاسيما عندما تكون العلاقة بين بلدين عربيين ومسلمين، و في الدائرة العربية تبدو انها مقسمة لأقاليم يعيش كل منها تجانسا وانسجاما في خصوصياته وعاداته وتقاليده بل لعل المصاهرة وتداخل المجتمعات يوحي بوحدة وتنوع متقارب كما هو الحال في المغرب العربي وبلاد الشام وحوض النيل وبلاد الرافدين.. يصبح التحرك من اجل تعزيز الترابط الاقتصادي التجاري والسياسي والأمني داخل كل إقليم مسألة لا يمكن تجاوزها وهنا يعني أن يخض كل بلد من دول الإقليم من خصوصياته الوطنية لصالح وحدة الإقليم الذي ينبغي أن يتحرر من الحدود السياسية و ما يتعلق بالضرائب وحرية التنقل والعمل وان يطلق العنان للاستثمار والتنافس كما يتم تعزيز الجوانب الأمنية بتجنيب المنطقة من العنف والإرهاب والتدخل الأجنبي.. وهذا لا يتأتى إلا على أرضية تفاهمات إستراتيجية بين بلدان الإقليم تعظم المشترك وتبرز فوائده..الكتلة العربية:الوحدات الإقليمية السابق ذكرها تنتمي الى الدائرة العربية يجمعها دين واحد وتاريخ مشترك وجغرافيا متواصلة ولغة واحدة..
ويبدو لحكمة يريدها الله انه يصعب قيام نهضة في بلد من البلدان العربية أو في إقليم من أقاليمها بدون نهضة الجسم كله، وذلك لأسباب عديدة أهمها التنوع البارز لعطاءات الجغرافيا والبيئة حيث يصبح التكامل شرط حياة، بلد كالعربية السعودية الزاخر بثرواته الطبيعية يعاني من أزمة اليد العاملة والسوق والمنتوجات الأخرى التي تفيض بها الجغرافيا ببلد عربي آخر.. وكذلك مصر بما لديها من كتلة عربية ضخمة بخبرات وتخصصات علمية فائقة الأهمية ومواجهة للكيان الصهيوني حيث الغدة السرطانية التي تبعث بشرورها تسود المنطقة العربية كلها، والسودان وما لديه من إمكانات لتلبية حاجات العرب الغذائية وموقعه الاستراتيجي، وهكذا نجد كل بلد عربي بتميز يجعل الاستغناء عنه عبثا للأمن القومي العربي أي لتوفير شروط النهضة و وهكذا نرى ان السوق والإنتاج والمنتوج والديمغرافيا تجبر الجميع بضرورة التفكير بتكامل عربي ينبني على قواعد قوية من دول لديها استعدادات طبيعية لقيادة نهضة عربية كمصر والعراق والجزائر تعتبر طليعة نهضة عربية بما تزخر به من كتل سكانية وثروات طبيعية وتجارب مصارعة ضد المستعمرين وتجارب صناعية رغم فشل بعضها.ومن هنا كانت المحاولات تلو الأخرى لإبعاد العرب عن بعضهم البعض ولعل مستلزمات بقاء الكيان الصهيوني أن يتم تقطيع أواصر العرب وخلق بيئات خصومة بين الدول والأقاليم كما نرى أن كل دولة عربية تعيش خصومة أو عداء مع جارتها العربية وتبذل لبقاء الصراع أموالا وطاقات كان ينبغي أن توجه لتحجيم البطالة والتصدي للجوع والمرض والتردي.لم ينتبه العرب إلى خطورة ما يقومون به عندما بنت دولهم مشاريعها على اعتبارات قطرية غير مكترثة لما ستؤول إليه الحال بعد مضي وقت إذ أن أي مشروع سيجعل حدود تفكيره البعد القطري سينتهي إلى تبعية للمستعمر وفشل داخلي و هكذا أصبحت البلدان العربية شذرا مذرا موزعة على ولاءات للأجنبي المستعمر الذي يكبل كل بلد بقوانين الصندوق الدولي وباشتراطات التبعية والفشل والتنازع الداخلي.
من الواضح هنا أن المطلوب ليس عملا على طريقة جامعة الدول العربية.. وليس المطلوب كذلك شطبها وإلغاؤها إنما المطلوب العمل الجاد بين الدول العربية الوازنة مصر والعراق والجزائر لتطوير ما بينها من تفاهمات واتفاقيات وجعلها اقرب للتكامل وذلك جنبا إلى جنب العمل على إدخال البقية من البلدان العربية السياج الحضاري العربي بالاستفادة والإفادة حيث أن لكل بلد عربي ميزة وخصوصية تجعل منه إضافة حقيقية لقوة الكل العربي كحالة نهضوية كبيرة تستطيع الإسهام الحضاري بجدارة.العملاق الإسلامي الحضاري:لعله من العبث إغفال ما يتم من محاولات قوة ونهضة في العالم الإسلامي تركيا وايران وماليزيا واندونيسيا وباكستان.. ولعله من الخسران الكبير عدم الاستفادة من تلك القوى الطموحة وقد حققت تركيا خطوات كبيرة على طريق التصنيع والبناء الاقتصادي كما كان لماليزيا واندونيسيا خطوات عملاقة على المسار ذاته وأما إيران لعلها قد حققت هدفا استراتيجيا بامتلاك النووي الذي سبقتها فيه باكستان بقنابلها الذرية وصناعتها الحربية.إن الاهتمام بهذا المحيط الإسلامي وعواصم نهضته يعني أننا سنحقق تحررا كبيرا من التبعية للاستعمار وتلبية حاجات كثيرة أساسية لنهضتنا وتنميتنا كما نحقق تكريس أمننا الإقليمي والقومي و الأممي.. ومن هنا نعيد الإعتبار للقارة المتوسطة ومحور طنجة جاكرتا باقتدار.ولعل المبادرة التي نادى بها مهاتير محمد قبل عامين ولبتها بعض الدول الإسلامية تكون الإشارة التي تيقظ الغافلين وتصحح مسار مشاريع التنمية لبلداننا العربية كما أنها قادرة على دفع التنازعات العرقية و الفلسفية الجدلية إلى الخلف.
التحالفات الدولية:بعد تجاربنا المريرة مع الاستعمار الغربي بعد رحيله من بلداننا أصبحنا أكثر يقينا أنه مصر على إبقائنا مشتتين ومتنازعين وتابعين له.. وهو مصرّ من خلال عدة مسارات أن يلزمنا بحالة الموت السريري، لتبقى ثرواتنا وأسواقنا رهينة بمشاريعه الاستعمارية التسلطية، ولم يدخر جهدا أو حيلة إلا وقام بها لإبقائنا بعيدا عن عتبة النهضة.و يصبح من الواجب علينا البحث عن علاقات متوازنة مع دول كبرى و اقتصادات كبيرة ومنظمات دولية على طريقة دول عدم الانحياز، والعلاقات بدول كالبرازيل وأمريكا اللاتينية، وكما هو الحال يتم التوجه لعلاقة مع الصين ولكن ينبغي ي موضوع الصين الانتباه أن الإمبراطوريات لا توزع وردا او حلوى على الحلفاء وهي لا تسمح أن تصنع إمبراطوريات بجوارها، ومن هنا سيكون من العبث الذهاب إلى تحالفات دولية قبل تحقيق تكتلات ذاتية قوية إقليمية وعربية وإسلامية كما أكد مهاتير محمد ي رده على مشروع طريق الحرير.إن أمتكم هذه امة واحدة وهي خير امة أخرجت للناس بما لديها من منهج الهي هو الأصح لرفعة الإنسان ومحاربة العنصرية والظلم و والعدوان تأمر بالمعروف وتنهى عن كل المنكر وهذا هو الإطار الفلسفي للنهضة والحضارة ودون ذلك سنظل عالة على الإنتاج الاستعماري ومسرحا لعملياته.. والله غالب على أمره