بقلم: شعيب بن عبد السلام الهادي الفتوري
ومن الحقائق الناصعة التي لا تقبل الجدال أن فقه الخلاف أو الفقه المقارن من أهم أنواع الفقه التي تمس الحاجة إلى دراسته والبحث فى مسائله باهتمام تام، فالفقه المقارن يبحث فيما اختلف فيه أهل العلم من الأحكام بعرض أقوال أهل العلم فى المسائل المختلفة وتحديد مواضع الخلاف فيها ثم ببيان سبب الخلاف وذكر أدلة كل فريق وترجيح ما يقتضيه الدليل من غير تعصب لمذهب من المذاهب، فالمسائل الخلافية لها دور هام في تنسيق هذا الفن وتشكيل قواعده كما أن لها أثرا واضحا في توسيع دائرة الفكر البشري عند مواجهة القضايا الجديدة، وأيضا صارت تلك المسائل مساعدة للأمة المحمدية في الدهور أجمعها لا سيما في عصر العولمة المحيط بالنوادر والمستجدات. والفائدة الكبرى لهذا العلم محاولة الوصول إلى حكم الله في المسائل التي تنازع فيها أهل العلم.
المقارنة لغة: المصاحبة وهي من مادة قرن بمعنى الجمع ويكون وزنه من المفاعلة المقارنة. واصطلاحا: تقرير الآراء الفقهية في المسئلة المعينة مع مسنداتها من الأدلة الشرعية بعد تحرير محل النزاع فيها وإقامة الموازنة بينها توصلا إلى معرفة الراجح منها أو الجمع بينهما. ثم هذا التعريف قد صار عرضة لطعن العلماء الكبار حيث إنهم قرروا أن الترجيح بين المذاهب وفقا لمذهب الباحث المعين بدون مرجح صحيح لا يصح أبدا لأن لكل إمام أصولا خاصة بهم ينبني عليها المسائل ويستنبط بها. ثم هذا الفن الفقهي قد اشتهر بأسماء عدة، مثلا: الخلافيات، وعلم الخلاف، وفقه الخلاف، والفقه التطبيقي، والفقه القياسي، والفقه المقارن.
ومما يلزم ذكره في هذا الصدد أن لتاريخ الفقه المقارن أو فقه الخلاف علاقة وطيدة بتاريخ الفقه الإسلامي إلا أن ظهور علم الخلاف كان متأخرا عن الفقه بفترات يسيرة. فطبعا لا محالة في أن تاريخي الفقه الإسلامي والمقارن تتداخلان وتشتركان في بعض المراحل التاريخية. ثم الأمر المهم أن الفقه المقارن كان في البداية منهجا وطريقة فقهية ولكن تحول بمرور الزمن إلى علم مستقل. فتاريخ الفقه المقارن يتوقف على بيان تاريخ الفقه الإسلامي بالتركيز على الاختلافات عبر القرون السالفة حتى تتضح نشأة الفقه المقارن ومراحل ارتقائه مع الاتجاهات الجديدة فيه.
والفقه في زمن النبي ﷺ لم يكن معرض البحث والمناظرة بين أصحابه حتى يتناقشو حوله ويبدو آرائهم واحدا بعد واحد، لأن مآل التشريع ومرجعه آنذاك كان الوحي الإلاهي المنزل على رسوله الأمين. وكان الأصحاب يأخذون من النبي ﷺ صور العبادات من غير أن يستفسرو عن أركانها وشروطها وآدابها وما إليها. وتظهر حالة الفقه في تلك الفترة جيدا من بيان ولي الله الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة والإنصاف حيث يقول: اعلم أن رسول الله ﷺ لم يكن الفقه في زمانه الشريف مدونا ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل بحث هؤلاء الفقهاء، حيث يبينون بأقصى جهدهم الأركان والشروط والآداب كل شيئ ممتازا عن آخره بدليده ويفرضون الصور من صنائعهم ويتكلمون على تلك الصور المفروضة.
وتبلور الفقه الإسلامي في زمن الصحابة تبلورا واضحا، حيث تجددت القضايا والمشاكل التي لم يرها عصر البعثة. وأما فقه الخلاف أو الخلافيات فتطور أيضا في زمنهم، وكان الاختلاف شائع بينهم ولكن في نطاق ما يجوز الاجتهاد فيه فقط. فجرت بينهم مناقشات فعالة حول المسائل الاختلافية وأبدوا وجهات نظرهم ومواقفهم حسب ما اتضح عندهم من البراهين والأدلة. ويعتبر من أهم أسباب الاختلاف بينهم اختلافهم في فهم النص الشرعي وتفاوتهم في إحاطة السنة النبوية كما يبينه الدهلوي حيث يقول: لقد رأى كل صحابي ما يسر الله له من عبادة الرسول وفتواه وأقضيته فعقلها وحفظها وعرف لكل شيء وجها من قبل حفوف القرائن به فحمل بعضها على الإباحة وبعضها على النسخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده.
ومما يجدر بالذكر بهذا الصدد ما بدى في تلك الحقبة من مدرستي الحديث والرأي، وتسبب ظهور هاتين المدرستين لكثرة الاختلاف بينهم في مسائل عديدة حتى جرت البحوث والمناقشات في مسائل متنوعة. فطبعا ما زال فقه الخلاف يتطور وتتسع دائرته حتى سهل الأمر للناس في اختيار الأحكام فيها يتعلق بشؤونهم المختلفة. ومن الأمثلة لجري الاختلاف بينهم ما وقع بين ابن عمر وعائشة، وهو: جاء عن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمر يأمر النساء إذا اغتسل بنقض رؤوسهن أو يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت اغتلس أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث فراغات.
وقد وسع مجال البحث الفقهي في عصر التابعين، وذلك لكثرة القضايا الفقهية والمشاكل اليومية التي لم يشاهدها عهد الصحابة. ومن العوامل التي أدت إلى تطور الفقه في هذا الزمن انتشار الإسلام إلى البلاد، وتفرق الصحابة في الأمصار، فأصبجت حدود المسلمين تمتد إلى الآفاق ومشاكلهم تتعدد إلى الآلاف. وأثرت أيضا في تطور الفقه الإسلامي قيام المدرستين الرئيسيتين وتدخلهما في الأوضاع المكثفة بين المجتمع الإسلامي. واستمرت الحالات هكذا إلى أن طلع العصر العباسي فنال فقه الخلاف منزلة لم ينلها قبل حيث تفرد فقه الخلاف فنا مستقلا يبذل الناس جهودهم في أخذه وإملائه.
وازدخر فقه الخلاف في عصر تطور المذاهب ازدخارا واسعا، واتسع أيضا منهجه إلى مناهج جديدة بالنسبة إلى العصور الماضية. ولكن انحصرت الموازنات الفقهية في قضايا جزئية فقط كما فعل الإمام أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي والإمام الشافعي في الرد على محمد بن حسن الشيباني والإمام محمد بن حسن في مناقشة أهل المدينة في كتابه “الحجة” وغيره من فقهاء الأمصار.
وتطور أيضا مجال التدوين جمعا لآراء الفقهاء في قضايا مختلفة بدون دفاع أي مذهب من المذاهب، ويعتبر كتاب “اختلاف الفقهاء” للإمام الطبري أول كتاب صنف في الفقه المقارن على هذا المنهج المذكور. ثم شاع التدوين في هذا المجال باستخدام مناهج مختلفة ككتاب اختلاف العلماء للمروزي والإشراف على مذاهب العلماء لابن منذر وتأسيس النظر للدبوسي وغيرها، وكل واحد منها يمتاز عن آخره بمناهجه المرموقة. ثم ما يتعلق بمدونات الفقه المقارن ومناهجها يأتي في الفصل التالي إن شاء الله.
وفي العصر الحدبث لقد خطا الفقه المقارن خطوة جديدة تمثلت في الموازنة بين الآراء الفقهية بدون تعصب لإمام ما. ومما يهتم به المعاصرون موازنة بين النظريات والآراء القانونية الوضعية والمسائل التي ترد فى المعاملات والقضايا الاقتصادية والجنائية والأحكام الدولية والأسروية. ثم الأمر المهم أنه قد تحول اسم هذا الفن إلى الفقه المقارن أو الفقه التطبيقي بعد ما كان يعرف بفقه الخلاف أو اختلافات كما يبنه ابن خلدون. وأصبحت دائرة الفقه المقارن في هذا الدور واسعة جدا، لم تقتصر المقارنات بين مذهبين أو ثلاثة أو أربعة مذاهب، ولكن تعددت إلى المذاهب المتعددة كما أن هذه الدراسات رقت إلى كتب التفاسير التي تدخلت فيها الفقه المقارن كالجامع لأحكام القرآن للقرطبي وأحكام القرآن للجصاص ولابن العربي وأيضا طالت الدراسات إلى شروح الأحاديث التي تبحث عن الأحكام الفقهية كنيل الأوطار للشوكاني وغيرها. ثم الميزة العظمى لهذا الفن أنه أصبح الطريقة المثلى المطلوبة في الرسائل العملية لنيل درجة الماجستير والدكتورة كما أنه قرر مادة دراسية في الكليات الشرعية والجامعات العلمية الشرعية.
إن الفقه المقارن من المواد الدراسية الهامة التي لا بد من إدراكها الطالب الفقهي، وهو يعتبر عمدة وثيقة لفهم قيمة الفقه الإسلامي ومدى ارتباطه بمئاخذه المستنتط منها. ومن المنافع التي يحصلها الطالب وراء هذه الدراسة ما تلي: التعرف على الطيقة التي تساعد لإبراز الملكة الفقهية ولتوسيع الدائرة الفكرية. وذلك أن طالب هذا الفن عندما يتعرض على أقوال الفقهاء في مسائل متعددة ومناهجهم في الاستنباط ومآخذهم في إثبات الأحكام، ويفهم مؤهلات التمرس في الفقه الإسلامي والنبوغ فيه، ويتضح أن أقوال الأئمة رحمة على الأمة المحمدية، وليس في الدين ما يعسر الأمة، وهذا ما ذكره النووي في مقدمة كتابه “المجموع”: واعلم أن معرفة مذاهب السلف بأدلتها من أهم ما يحتاج إليه لأن اختلافهم في الفروغ رحمة، ويخلص الباحث من الجمود الفكري والتعصب المذهبي، وكان التعصب المذهبي الداءَ الوبيل منذ زمن طويل، وهذا الفن يزيل من الباحث تلك الأوهام الباطلة.
المدونات المشهورة
لقد أصبح الفقه المقارن مادة معينة للبحوث والدراسات حتى انجزت فيه الكتب والمدونات قديما وحديثا، وهناك ثلاثة أنواع من الكتب، الأول: الكتب المذهبية، والثاني: كتب الخلاف، والثالث: الكتب الحديثة. فالكتب المذهبية التي عرضت المقارنة بين المذاهب مع تأييد آراء مذاهب المؤلفين وترجيحها والرد على غيرها وتضعيف أقوال سائر الأئمة ومواقفهم: المعونة في الجدل لأبي إسحق الشيرازي (394هــ-476هــ)، والإشراف على نكت مسائل الخلاف للشيخ القاضي عبد الوهاب المالكي (422هــ-1031م)، وطريقة الخلاف في الفقه بين الأئمة الأسلاف للشيخ العلامة محمد بن عبد الحميد الأسمندي (488-552هــ)، والحاوي الكبير للعالم الجليل أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (364-540هــ)، والمحلى للشيخ أبي محمد علي بن أحمد بن حزم (384-456هــ)، والخلاف الكبير للشيخ أبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسين الكلواذاني (510هــ)وعنوانه “الانتصار في المسائل الكبار”، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للشخ علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (587هـ-1191م)، والمغني للشيخ موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي (541-620هــ) وهو شرح لمختصر الخرقي، وهو يعرف موسوعة فقهية في المذهب الحنبلي والفقه المقارن، والمجموع للإمام أبي زكرياء محي الدين بن شرف النووي (631-676هــ)، وهو شرح لكتاب “المهذب” للشيرازي. ومذهب الإمام داود الظاهري للشيخ العلامة محمد الشطي الحنبلي الدمشقي (1307).
فكتب الخلاف المؤلفة أصلا في علم الخلاف، والمقارنة بين المذاهب بشكل أساسي بدون تفضيل مذهب ما: كتاب اختلاف العلماء للشيخ أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي (202-294هـــ)، واختلاف الفقهاء لشيخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (224-310هــ)، والإشراف على مذاهب العلماء للشيخ العلامة أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر (242-318هــ)، وحلية العلماء للشيخ أبي بكر محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي القفال (429-507هــ)، و تأسيس النظر للعلامة أبي زيد عبيد الله بن عمر الدبوسي (450ه/1039م )، والإفصاح عن معاني الصحاح للوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي (499-560هــ)، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد للشيخ أبي الوليد محمد بن أحمد، المعروف بابن رشد الحفيد الفيلسوف المالكي (520-595هــ)، والفقه على المذاهب الأربعة للشيخ عبد الرحمان الجزيري، ورحمة الأمة في الاختلاف الأئمة للشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي الشافعي المعروف بقاضي صفد المتوفي سنة 785هـ، والبحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار للشيخ المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضي الزيدي (764-840هــ)، والميزان الكبرى للإمام أبي المواهب بن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بـ”الشعراني” (895-973هــ/ 1493-1565م). والكتب الحديثة التي قام بها المعاصرون: مقارنة المذاهب لشيخ محمد علي السيس، والشيخ محمود شلطوط، ومسائل في الفقه المقارن للشيخ الدكتور سليمان الأشقر، والفقه الإسلامي وأدلته للشيخ الدكتور وهبة الزحيلي، وبحوث في الفقه المقارن للأستاذ الدكتور محمود أبو الليل والأستاذ الدكتور ماجد أبو رخية، ومحاضرات في الفقه المقارن للشيخ العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ودراسات في الفقه المقارن للدكتور محمد سمارة، وبحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله للشيخ الدكتور محمد فتحي الدريني.
المراجع
الدكتور محمد الزحيلي، الفقه المقارن وضوابطه وارتباطه بتطور العلوم الفقهية خلال القرن الخامس الهجري
الدكتور مصطفى سعيد الخن، دراسة تاريخية للفقه وأصوله والاتجاهات التي ظهرت فيها
محمد الحسن الحجوي الثعالبي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي
سعيد رمضان البوطي، محاضرات في الفقه المقارن
سليمان الأشقر، مسائل في الفقه المقارن,.