بقلم مصطفى الهدوي، أوركام
يقال إن القلب بمرور الوقت ينسى الآلام… والعين تجفف الدموع عند هبوب ريح تحررها من عبىء الأحزان… فماذا إن لم تنج من عبئها…؟ لا تزال الخدود مبتلة والعيون ممتلئة والقلوب مختنقة…
جفا دمع عيني فطرده فانحدر من الخدين نهرا…
ذكرياته المزينة ببسمة ثغرها لا تزال تؤلمني.. بسمة تكفي لإشباع آلاف الجائعين… بسمة تقع على القلوب المحزونة كالنسيم… بسمة راودت الأمة وواستها وصارت مرهما لجروحها…
قلبي يقول بأن تلك الابتسامة فضل من الله اختص به تلك الأسرة من آل سيدنا محمد الكريم صلى الله عليه وسلم… أسرة فاضت بكل خيرها وبركاتها من اليمن إلى ساحل مليبار… تلك الابتسامة الجميلة شاهدناها في وجه الفضيلة الرحيل السيد حيدر علي شهاب… كانت بقية جليلة مما ترك والده الحنون السيد أحمد فوكويا… فانتقل منه إلى أولاده وأحفاده…
تلك هى الوراثة الوحيدة التي ورثوها من جدهم الرسول الأمين… نظرة أخويه الذين سبقاه السيد عمر علي شهاب والسيد محمد علي شهاب وبسمتهما كانت تنعكس في مرآة وجهه الجميل… كانت أعنة القوم في أياديهم محفوظة… وكانت الأمة تحت ظلهم آمنة…
ولاية كيرالا بوركت بتلك الحضرة المباركة، بتلك الأسرة النقية… بفضلها استقرت الولاية بجمال وحدتها وطمأنينتها… وصارت بستان ورود تفتحت فيه أزهار الأخوة والمودة.. سياسة الظلم والعدوان والجور أغلقت صناديق ألاعيبها القذرة وغادرت… ولم تنجح في نشر بذور العصبية في تراب المليبار فهاجرت…
اهتزت كيرالا بالطرب والسرور عندما بكى الآخرون من التفرقة العنصرية والمقاتلة الشعبية…لم تظهر في شرقها أشعة سياسة الاستبداد… كل صباح طلعت فوقها شمس لها نور السكون والهدوء، وكل مساء ابتسم من سمائها قمر السلام والأمان، وفي جوانبه نجوم لامعة لا تسد عينيها تحرس الأمة في ليالها الساهرة حتى غيابها… إذا غاب القمر ملأ أحد النجوم مكانه حتى لا تشعر الأمة بغروبه… هكذا كانت تلك الأسرة ونجومها… إذا أفل منها القمر سد مسدها الآخر حتى لا يضيع القوم طريقهم…
ذات يوم أفل ذلك القمر الذي هو نور ليالي مليبار… تلك الليلة باتت مظلمة… مالت سفينة القوم يمينا وشمالا في ظلمة اللجة بدون قبطان… هاجت أمواج الناس في فناء ذلك المنزل الجميل الذي لن تغلق بوابته… بل تبقى مفتوحة تستقبل مئات الشكاية، وتستمع إلى آلاف الأحزان…
عجزت حواجز الشرطة ومتارسهم أمام سيلان القوم… كأنما اجتمعت الولاية بأكملها في حضرته… يودعون الرحيل ويرغبون في إلقاء نظرة أخيرة إلى سيد كان ملجأهم ومأواهم… سيد لم يشعر بالملل من زيادة شكواهم… كان قصيرا في القامة كبيرا في الهمة… وهب حياته لقومه فنسي أن يعيش لنفسه…
كم من الجميل أن يكون لك ملاذ تلجأ إليه وتشكو بقك وحزنك إليه… كم من النعمة أن تكون هناك شجرة تستند إليها وتستريح في ظلها… وكم من العسر تحمل رحيله وغيابه وبقاؤك بدون ملاذ ولا ظلال…
حضره المسلم والهندوس والمسيحي حتى حضر من ليس له دين… بسطوا أيديهم بالأتراح فردها ملأى بالأفراح… رجل تجاوزت خدماته عوائق التفرقة الشنيعة… سيد هدمت ابتسامته جدران العصبية والعدوان…
ولاية في الهند تشتهر بأمنها وطمأنينتها ووحدتها ومساواتها بينما سائر الولايات تعاني من الاضطهاد والطغيان… هنا أسرة نبضات قلبها تنبض مع قومها… هي الكلمة الأخيرة لمسلمي مليبار، هي الشفاء لكلومهم التي لا تندمل بالمعالجة… هي الدواء لجروحهم التي لا تلتئم بالأدوية… هي الأم والأب والطبيب والشفاء والمرهم…
سهرت المليبار تلك الليلة المظلمة… حتى عصافير الأغصان لم تنم… احتشدت المليبار بروحها وجسمها حول شخص واحد قد استلقى على سريره بدون حركات… ولكن تفتح أزهار شفتيه بالابتسامة الجميلة التي كانت شقيقة وجهه الحساس… اختنقت كيرالا في ذلك الازدحام الشديد لإقراء سلام الوداع للسيد المحبوب…
بقيت الأمة في جنبات تلك الجنازة الموقرة تحرسها… السيد الذي حرم على عينيه نوم الف ليل من أجل الأمة، فكيف للأمة أن لا تسهر تلك الليلة من أجل سيدها…
لم يتوقف فيضان الناس الذين يحرصون على الرؤية الأخيرة… كيف للشرطة والعسكر الوقوف أمام طوفان القوم الذي انفجر من أنحاء الولاية فور انتشار نعيه… ضاعت السيطرة وتحير الأمراء… أجبروا على رفع الجنازة المعظمة إلى ضريحها…
حملوا أحلامهم على أكتافهم ووضعوها في اللحد وواروها تحت الثرى… انصرفوا وآمالهم مدفونة في ستة أذرع من التراب… حتى ضريحه اشتكى كأنها اعتنقت بالبحر لا بالبشر… انصرفوا يبحثون عن الابتسامة الجديدة من فناء تلك الأسرة الطاهرة… فرأوا قمرا بازغا يبتسم لهم ويسليهم… تلك أسرة أرسلت للرئاسة والسيادة وليس لها خاتم الحكم إلا تلك الابتسامة الثمينة…
يا تربة ضريحه… انت مبروكة تقبلين يديه وجبينه متى شئت… تزينين بنفسك جدران مقبرته… تحملين في جوفك آمال جيل على وجه الأرض فاحفظيها واخدميها