يتطلع علينا محرم ، ويطل إلى عتبتنا هلاله المقوس، وتحيرنا كيف نستقبل قدومه وتشريفه، بكل حفاوة بالغة أو بحسرة قاتلة، وقد أتت الهجمات السياسية على الأخضر واليابس وبدأت الاستعمارات من جديد، في كل زاوية إسلامية شعارات تعلو وتتوالى ضد الحكومة وعروشها، وانقلابات وثورات حاسمة لا تنتهي ولا تنطفي أوارها، في كل عام نجتمع ونحتشد ونعاهد ونبايع ليوم جديد ونعلي هتافات تدعو إلى المجد التليد، ثم نتناسى عنها فتتلاشى من مرآة قلوبنا ثم لا نرى أثره ولا غباره، ولكن محرم هو ذكرى حية تبعثنا لفكرة ثانية ولنظرة إلى الايام الخالية.
أما الهجرة التي بها تقوم شرايين السنة الجديدة وتطلق إلينا رسالة التضحية والفداء، من تذكار المصطفى صلى الله عليه وسلم حين يودع بلده ويترك داره وجيرانه، ويسبل دمعات تولدت من الذكريات الأليمة، ولكنه هاجر ولم ينثن دون التهديدات ولم يركع دون الإغراءات والوعود المثيرات، فأصبح الرسول رجل همة وعبقرية، ينظر إليه الزمان بمقلات مدهشة، ويذكره في كتبهم برشحات محترمة، وقد أتى القريش إليه بشمس وقمر وأخبروه بزخرفة البيت وزينة النساء، لكن المصطفى صلى الله عليه وسلم أعرض خده وأقصى بعده، وأخبرهم أن الدين جد لا هزل وأنه رسالة أخيرة ربانيو لا تتلوها أخرى، وفي الحال نسترد تلك الدعوة العالية والجهاد الأكبر، والهمة التي نبتت من تلك المواقف الحاسمة والعبر التي لا زالت ألويتها مرفوعة، وليست الهجرة فرارا ألبتة بل هي مقاومة ربانية وحرب استراتيجية، حيث ظنت العرب بتفاهتهم أن الرسول سيغلب وأن جنده لا ينتصر، ولكن الله بسط له جناح الرحمة والدفئ والحنان، وأبطل كيدهم وسحرهم حتى علا الحق مبتسما،
ومن بين هذه البشريات نتأسف وقد عادت إلينا النخوة الجاهلية والحمية الغبية، وتناسينا عن الأخوة المحمدية التي بها كسرنا القياصر والجبابرة، وقصمنا الفراعنة والصهاينة، وحولنا ملامح تبدو فيها أغلبية الخلاعة والفجور وتسري في عروقها الفحش وسوء الأمور، شبكات تقدم الأفلام الإباحية والكرتونات الرخيصة والملاعب المشوشة، لكن الرجل المتقن سيحيي قلبه بنور الإيمان ويروي دماغة بفكرة الرحمان، ولا يبيع عزته ولا يرهن إباءه لكنه يمشي مع الثقافة الحسنة ممثلا في نفسه شخصية مثالية، وقد طلبنا الوقت كي نوحد دربنا ونثقف مذهبنا حتى لا نندفع من السيل الجارف الغربي ولا نساير مع الترهات حتى لا نقدس لاتا ولا مناة، ولا نتصف بسوء الحياة، كفكف دموعك أيتها الأمة الإسلامية، تقدمي على بركة من الله، يحييك عام جديد وتشرقك شمس من بعيد، فإنه لا بد للقيد أن ينكسر ولليل أن ينجلي.