حين تمحي العدالة من متن الدنيا وتبقى المحاكم وكل المؤسسات التي تدعي الإنصاف في قراراتها والشفافية في تعاملاتها إمعة لأصحاب القوات ورجال الحكم، ويقضي القوي على الضعيف على أساس قوته وجبروته فليس عجبا أن ترى الأيادي الآثمة التي طالت على الشعوب والأقليات بلا مبرر بريئة مطهرة من كل الخطايا والذنوب، فليس عجبا أن ترى كل الأيادي تصفق وأن ترى الحناجر تغني وتشدو للأقوياء والجبابرة، وليس عجبا أن تسمع أغاني تطبل للملوك وحاشيته، والمشهد نفسه تجلى أخيرا في قضية المسجد البابري الذي طالما سبب كرا وفرا في سياسة أكبر دولة ديمقراطية في العالم إلى انهدشت الدنيا على إثر حكم تحكمه المحكمة الكبرى الهندية بتبرئة المتهمين وتبييضهم، فلم تقم دنيا حماة الحقوق البشرية ولم تقعد لتقدم تضامنها واحتجاجها ضد هذه المسرحية المقززة التي بطلها واحد وكاتبها واحد وهدفها واحد، فحين نتسقط تلك الأخبار التي وردت بصدد هذه القضية نتأكد بأن أصابع الاتهام تشار إلينا قبل الجميع، وأن الإثم الكبير لا بد أن يتحمله نحن المسلمين، لأننا تجاهلنا أحقيتنا وانشغلنا فيما بيننا من الاختلافات التافهة، وتكالبنا على هدم عزتنا من داخلها، حتى خبت أصواتنا وتنكست راياتنا في جو يسوده الخوف واليأس، وما صحونا من غفوتنا إلا بعد أن داست أعداءنا عزنتا وكرامتنا وألصقت على جبهة أمتنا عارا وقارا، وكنا نفوض أمورنا إلى غيرنا ونحمل المسؤولية على الأغيار ونتنصل من الأعباء التي يحاسبنا الله عنها يوم القيامة، ونقتنع بتلك العبارات التي أملتها القنوات ونسختها الصحف ورددتها الأبواق المرتزقة التي تبدو في نبرتها الهوان واليأس، ورضينا بتلك الشعارات ” نحن أمة مظلومة” “وهناك مؤامرة مظلمة وطابور خامس” ” وتدخل خارجي يشتت شملنا”، لنسكن أعصابنا ونخدر مشاعرنا للحظات معدودة، فمن الأسف أن تظل الأمة الإسلامية التي رسخت جذورها في أعماق الهند بشرقها وغربها تابعة وخاضعة لأولئك الذين يتلاعبون ويعبثون بآمالها وآلامها لمجرد مصالح سياسية تافهة، فمن العجب أن تنخدع هذه الأمة في تلك الفقاعات التي تظهر وتخفى بدون أي أثر يذكر، تنخدع في الوعود التي تلقي إليها الحكومة، وتنخدع وتغتر بالمظاهر ولا تدري ما هو نبض الزمان الحاضر والآتي.
فماذا يعني المسجد البابري للأمة الإسلامية، أهو مجرد مكان يصلى ويعتكف حتى نقيم أجمل معبد مكانه أم هو رمز كرامة وعزة عاشها المسلمون في شبه القارة الهندية لسنين طويلة، فالمسجد البابري لم يك مجرد مجموعة قباب ومنارات ومآذن، ولم يك مجرد مسجد موقوف لله تعالى بل كان له الانعكاس الواسع في حاضر الأقلية المسلمة في الهند ماضيا وحاضرا، فحين يخرج المتهمون من قفص الاتهام ملوحين أياديهم تحترق القلوب وتثور غضبا من تلك الألاعيب التي بحوزتها قوة لتقليب الدستور الهندي الذي وعد الشعب بالعلمانية والعدالة حتى أصبح نفس الدستور بين عشية وضحاها لقمة سائغة لمن بغى وتجبر، فلم يلبث لطحنه وتدقيقه ورميه أمام العالم، فأي ذل وهوان قد اعتلى المسلمين في أنحاء العالم، كل الحقوق ترفض وتحرم، وكل الجهات تتداعى عليهم لتأكلهم وتمزقهم أشلاء، وكل الوجوه تعبس أمام مطالبهم وأسئلتهم وكل الأبواب توصد أمامهم، فحين نبحث عن نقاط الضعف التي تعاني منها أمتنا نجد قائمة طويلة من الضعف والضياع واليأس والجبن والانزوائية، فرغم كثرة المشاكل والمآزق لا نبحث عن الحلول الناجعة ولا نعي ما يحكي لنا الواقع، إذن لا بد أن ننفض الغبار الذي علق بنا وأن نفيق من النومة التي أوقفت مسيرتنا الانتصارية.
فالظروف التي تمر بالأقلية المسلمة في الهند ليست كما تسمع وتبث فإن ما خفي أعظم وما ظهر أدهى وأمر ، استهدافات ماكرة لنشر الذعر وبث الخوف في مناطق المسلمين، تهديدات تباركها الحكومة بالتهجير والقتل، وهجمات مكتملة الأركان لاستئصال المسلمين، ومحاولات مكثفة لمحو الهويات الإسلامية التي زادت الهند رونقا وأناقة، فرجال الحكومة خائفون حتى من الشوارع التي تحمل أسماء أبطال المسلمين، وخائفون من كل أثر له حكايات المجد التي عاشها المسلمون زمانا، فيطوقون بزعماء المسلمين ويشترونهم بثمن بخس، ويبيعونهم في أسواق السياسة الدنية حتى تخفق كل الأصوات وتصدأ كل الآلات، فأحدث الأخبار التي تأتي من جمهورية الهند تكوي كل من لديه ذرة من الإنسانية، بنت تغتصب بعنف وتترك بلا رحمة، وتموت بكل ألمها ووجعها بينما يتجول في دهاليز القصر قتلتها وغاصبوا كرامتها، فكل صور ترسم في الهند عبارة عن الغصب والنهب والقتل والظلم، وحتى الذين أعلنوا وفاءهم وولائهم للشعب المظلوم أصبحوا يترددون الآن في خيام الخونة، فلا للشعب المتطلع إلى آفاق الأمل واحة تأمن وتدفئ، لكن الأمل لم يزل يحرك شراع سفينة الأمة المحمدية، ولم يزل الحلم الجميل يزين صباح مستقبلهم رغم كل هذه اللقطات الجريحة التي تصادفهم صباح مساء.
وما كان المسجد البابري أول النكبات التي ضربت الأمة ولا آخرها، بل كان أنكاها وأبكاها، انهارت قبتها تحت الصمت العالمي المهيب المخجل، وسقطت معها كل الأقنعة التي طالما خدعت الأمة المسلمة، وكان سقوط البابري بداية مرحلة جديدة في سياسة المسلمين في الهند، فمنهم من تغنوا بتسبيحات المجرمين مع الذل والهوان، فمنهم من ثاروا وغاروا فمنهم من انحازوا نحو الوسطية يا ليتها كانت وسطية، فأصبحت الأمة مبعثرة أصواتها لتقع في هاوية لا مفر منها حتى الآن، فإذن، انهدم المسجد البابري، واقتلع من أساسه، وأصبح أثرا بعد عين، لكن بقي الزمان يسأل ” أين العدالة وأين أين الصدق والأمانة”.